Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محسن علي السهيمي

المصادقون على «أفيون» ماركس

A A
لم تأتِ مقولة كارل ماركس «الأديان أفيون الشعوب» نتيجةً لتعامله المباشر مع الدين الإسلامي؛ فماركس (الشيوعي) لم يعش في بيئة إسلامية ويختلط بالمسلمِين حتى يُصدر هذا الحُكم ويخص به الدِّين الإسلامي. وعليه فعندما أطلق ماركس هذا الوصف جعله شاملاً لكل الأديان السماوية -المحرفة وغير المحرفة- والأديان غير السماوية، ومع هذا فقد كان يحترم الإسلام؛ فنُقل عنه ثناؤه على الرسول صلى الله عليه وسلم. ماركس يؤكد على أن «الناس يُقبِلون على الدِّين لأنه يخدِّرهم ويلهيهم عن شقاء الحياة»!!، ولست هنا بصدد تفنيد مقولته وبيان بطلانها؛ فقد كُتب عنها الكثير، وبان عوارها، خصوصًا والدين -وأنا أتكلم عن الدين الإسلامي- حبَّب لأتباعه الحياة، ورغَّبهم في ممارسة العمل والإنتاجية، ودلَّهم على سبل الموازنة بين الحياة الدنيا والآخرة، ولا عبرة بالخارجِين عن تعاليمه وقِيمه السامية ومُثُله العليا، ولذا يأتي العقاد ليؤكد في كتابه (أفيون الشعوب) على أن الإسلام «نظام اجتماعي له منهجه في علاج المسائل التي تتصدى لها الشيوعية، وهو يواجه مشكلة الفقر بحلوله المتعددة ولا يقصر مواجهتها على فرض الزكاة لمستحقيها كما يسبق إلى الظن لأول وهلة؛ إذ هو ينكر الإسراف والترف والاحتكار ويأبى أن تكون الأموال دُولة بين الأغنياء، ولا يصدق عليه قولهم إنه أفيون الشعوب لأنه يأمر المسلم ألا ينسى نصيبه من الدنيا ويحثه على دفع المظالم ومنع الشرور..». ومع بطلان مقولة ماركس هذه التي فُهم منها أنها تجعل العلة في الدين نفسه لا في المنتمِين إليه أو المحتكرِين له والأوصياء عليه، إلا أنه يمكننا أن نصل في مقولته تلك لجزئية صواب غابت عنا، وربما كان يومي لها من طرف خفي، لكنه لم يشأ المجاهرة بها، لجأ للمجاز؛ حتى يخرج من تبعاتها. بيان ذلك أنه إذا ما اتفقنا على أن المعني بهذه المقولة -حسب قراءتنا المباشرة لها- هو الدين -أيّ دِين- ففي الوقت نفسه يمكن أن تُقرأ على أن ماركس ربما قصدَ بمقولته الطبقات الحاكمة (الأوصياء) التي ظلت وصيةً على الدين، وصيرته وأتباعَه وسيلة في أيديها، تُفسِح فيه كما تشاء، وتُضيِّق ما اتسع منه وقت ما تشاء، وتجعل منه وقودًا لأطماعها، وجسرًا لغاياتها، ومعززًا لمواقفها أمام رعاياها، وحبلاً في رقابهم، ترخيه لهم مرة، وتشدهم به إليها مرة. هذه القراءة المغايرة لها وجاهتُها، وربما كانت حاضرةً بقوة في ذهنية ماركس وهو يطلق مقولته التي يمكن أن تُقرأ قراءة مغايرة مفادها: إن الأوصياء على الدين باستطاعتهم أن يجعلوا منه مخدرًا للشعوب حال رغبوا سكونها وخمولها وصرفها، وهم بهذا يُخدِّرونها تحت مبرر تعاليم الدين لتتنازل عن حقوقها ومطالبها، في الوقت نفسه يستطيعون أن يجعلوا منه مخدرًا لكل فكر مستنير عند الشعوب ما يسلبها وعيها وإرادتها بالتالي تسهل السيطرة عليها وتوجيهها الوجهة التي يريدها الأوصياء. وخيرُ مَن صادقَ على هذه القراءة المغايرة وجعل ماركس يبدو صادقًا في مقولته هو نظام ولاية الفقيه ممثلاً في الوضع الذي يعيشه معظم الشعب الإيراني والأحزاب الموالية لإيران في بعض الدول العربية؛ حيث جعل هذا النظام مقولة ماركس -وفق القراءة المغايرة- صادقة وواقعة بجلاء؛ ذلك أن ولاية الفقيه سلبت معظم الإيرانيين والأحزاب الموالية لها وعيهم تحت مخدر (تصدير الثورة الدينية الخمينية) فأصبحوا تحت تأثير أفيون هذه الثورة مجرد تروس صماء في آلة الثورة، ولذا أرى أن هذه القراءة المغايرة هي المعنى الحقيقي (المستتر) في مقولة ماركس، لكنها -أي المقولة- أُخِذت على ظاهرها فقُرئت قراءةً تقليدية جعلتنا ننبذها ونُصادرها دون تقليب لها، ودون قراءتها قراءة مغايرة. ولذا تغدو مقولة ماركس صادقة (فقط) حينما تُقرأ على أن مقصودَها أن الدِّينَ -أيّ دِين- يغدو أفيونًا مخدِّرًا عندما يُكيِّفه الأوصياء بما يخدم توجهاتهم، فيجعلون منه أداةَ تخدير للشعوب، تفقد به وعيها قبل حقوقها، ما يجعل بالإمكان السيطرة عليها وتوجيهها.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store