Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

في مراجعة «العلوم الشرعية» «12»: أولوية «السؤال والتساؤل»

A A
لحكمةٍ ما، يُفترض أن تكون جليّة، وردت تصريفاتُ كلمة (سأل) في القرآن الكريم أكثر من مائة وثلاثين مرة!

والواضح من استقراء القرآن أن أنواع الاستخدام ومجالاته تشمل كل شيء يتعلق بحياة الإنسان على هذه الأرض، بما يشمل دور الدين في ترشيد تلك الحياة.

من المؤكد أن الأسئلة التي تتعلق بكيفية تعامل المؤمن مع تعاليم القرآن فيما يتعلق بالعبادات والعقائد أمر مهمٌ وأساسي، كما هو الحال في آيات كثيرة يَسأل فيها المؤمنون، مثلاً، عن الأهِلّة، والإنفاق، والشهر الحرام، والمحيض، والخمر والميسر، واليتامى، والحلال من الطعام، وغيرها من المسائل التي تندرج في هذه الأطُر. ورغم بعضِ حرفيةٍ واختزالٍ صبغَا (التفسير) و(الفهم) التاريخي التقليدي للمُراد المعرفي والفلسفي والإنساني الأكبر للمعاني الكامنة في إجابات القرآن على تلك المواضيع، إذا تمَّ تدبُّرُها بشكلٍ أكثر شمولاً، إلا أنها بقيت تؤدي دوراً في المحافظة على حدٍ أدنى من إطفاء ظمأ المسلم، تاريخياً، بأنه يتبع تعاليم القرآن في حياته اليومية..

لكن الأخطر في الموضوع أن ذلك الاختزال لمفهومي (السؤال والتساؤل) ومعناهما في ذلك الجانب فقط يبدو سبباً محورياً وراء الجمود الذي حصل في ثقافة المسلم حين يتعلق الأمر بمنزلة (السؤال والتساؤل)، ودورهما المحوري في المحافظة على الحيوية العقلية والنفسية والعملية للتفاعل مع الإسلام، وفي تحفيز تلك الحيوية باستمرار، بُغية تحقيق مقاصد الدين الإنسانية الكبرى في كل زمان ومكان.

لننظر في بعض الأمثلة مع إشارةٍ سريعةٍ لمقصدها الأكبر، لا يحتمل المقام الدخول في تفاصيلها.

{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمون}: إن تحصيل المعرفة يتأتى بسؤال المتخصصين والخبراء، ليس فقط في الشريعة بطبيعة الحال.

{وَكَذَٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ}، {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُون}: إن فائدة التساؤل بحثاً عن الحقيقة والصواب والأفضل تبلغ أوجها حين تحصل بشكلٍ جمعيٍ (مؤسسي).

{فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ}: إن افتقاد التساؤل والبحث والدراسة سببٌ رئيس لاستمرار حالة (عَمى) البصيرة، سواء تعلّقَ الأمر بالمعلومات أو المعرفة أو فهم الظواهر البشرية.

{اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ}: إن المبادرة للقيام بفعلٍ بشريٍ إراديٍ، قد يكون، غالباً، صعباً وغير مألوف يبقى عنصراً رئيساً في تحقيق أهداف البشر أفراداً وجماعات.

{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا}: من يملك الجرأة على تفسير هذه الآية حرفياً؟ ذلك أنها تؤكد أن السؤال عن دروس التاريخ، وتجارب الأمم والأقوام هو السبيل لتطوير الحاضر والمستقبل.

{يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}: تقشعرُّ الأبدان من التفكير في آفاق هذه الآية لأنها تُظهِرُ غياب حدود المعرفة في هذه الحياة، وتُبيّنُ أن السؤال والتساؤل هما سبيل الوصول إليها، والاستمرار في المحاولة البشرية السامية لمقاربة (الحقائق) الكونية الكبرى في كل مجال.

ثم إن ثمة جملةً من الآيات تثير أعمق ما في الإنسان من الانفعالات المثيرة لمَعاني (الرَّهَب) و(الشعور بالمسؤولية) و(الإحساس بدرجةٍ عاليةٍ من التقصير). يحصل هذا، تحديداً، عندما يتعلق الأمر بما جرى تاريخياً من عملية تعليبٍ كُبرى لتعاليم الدين، وتجميدٍ مهولٍ لحيويتها، ومحاصرةٍ لعملية التحرير الكبرى الكامنة فيها داخل أطر التقليد والحرفية والآبائية، وقتلٍ للكمون الإنساني الاستثنائي المستمر والمتصاعد، عبر التاريخ، في إمكانية فَهمها، وإعادة صياغة مناهج وعلوم جديدة تُحقق مقاصدَها الإنسانية، وتضمنُ، حقيقةً، وليس بالمعنى التقليدي الشعبوي، صلاحيتها لكل زمانٍ ومكان. فلننظر قارئي الكريم في الآيات التالية، بعين البصيرة، مُستحضرين المعاني المذكورة في الفقرة أعلاه:

{فلنسألنَّ الذين أُرسِلَ إليهم ولنسألنَّ المُرسَلين}، {فوربّك لنسألنَّهم أجمعين}، {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُون}، {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً}، {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}، {وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ}، {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولون}، {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُون}، {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ}، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}.

مسكينٌ، لكي لانقول أكثر.. مَن يحصرُ معاني السؤال والتساؤل في الآيات السابقة في مجرد أداء الشعائر أو حتى الالتزام بالأحكام والفتاوى التي سيطر علماء الحديث والتفسير والفقه على صياغة تفاصيل مُراد الله ورسولهِ فيما يتعلق بها على مدى التاريخ..

وأخيراً، تأتي في أواخر القرآن الكريم الآية التي تُلخّص الموضوع بأسره: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيم}.

نعم. ثمة سؤالٌ قادمّ كبيرٌ ومهيبٌ عن الهُجران الواسع لما أراده الله من نعيمٍ على الإنسانية بتنزيل هذه الرسالة، أوسعُ وأجملُ وأسمى بكثير من ذلك النعيم التقليدي السطحي الذي يجري الحديث عنه، بِرَتابةٍ مُمِلّة، في منظومة التراث الإسلامي..

من هنا، سنبحث في المقال القادم وما يليه عن تفسيرٍ لظاهرة (الذُّعر) السائدة بين المسلمين عن السؤال والتساؤل. سنتحدث عن حوار إبليس مع الخالق، وعن السؤال، بل والشك، الإبراهيمي، وعن المعاني الكامنة في مقولة موسى عليه السلام: {ربِّ أرِني أنظر إليك}! ثم ندخل في لجةٍ من الأسئلة الكبرى المتعلقة بعلوم الحديث والتفسير والفقه، بمعطياتها ومناهجها، لنساهم سوياً في تحرير الإسلام من عملية (الاختطاف) الخفيّة التي تعرَّضَ لها على مدى التاريخ.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store