Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محسن علي السهيمي

موضوعية المتن وفوضى الهامش

A A
يحدث أن تَكتب نصًّا، أو مقالاً، أو حتى تغريدة عابرة، أو ما يدخل تحت مفهوم الخطاب، فتختلف على خطابك القراءات والتأويلات بحسب أفهام القراء. الاختلاف في تحليل مضامين الخطاب وتفكيكه أمر وارد؛ نتيجةَ اختلاف أفهام القرَّاء وطريقة تلقيهم للخطاب، غير أن ما لا يمكن قبوله هو (التأويل القصدي التعسفي) لمضمون الخطاب، وهذا مرده إلى أن القارئ قصدَ الإضرار بمنتِج الخطاب أو على الأقل إسكاته، أو أن قراءته البليدة للخطاب أدت لصرف مضامين الخطاب عن مقصودها، وكلتا الحالتَين تَشِيان بأننا أمام قارئ يعيش أزمة قراءة، أو أنه اكتسب مهارة القراءة بوصفها قراءة فقط، لكنه فاقد لشروطها ومهاراتها التي تُعينه على الفهم والتحليل ومن ثَم إصدار الحُكم على المقروء. هنا تحضرني (معركة ذات الخواطر) التي نشبت بين المفكر الطلائعي محمد حسن عواد وخصومه الذين رأوا في كتابه (خواطر مصرحة) كارثةً حلت بالدِّين والقِيَم والسلم الاجتماعي؛ فالخصوم لما أنْ تعَّسر عليهم فهم مضامين كتاب العواد -الذي كان أعلى في محتواه ومستواه من أفهامهم ومداركهم- فزعوا إلى الوشاية به، والتحريض عليه، والاستقواء بالسُّلطة العليا لدحر هذا الخطر النابت، وهو ما جعلهم يَشُون به لدى الملك عبدالعزيز آل سعود الذي أحال موضوعهم إلى نائبه على الحجاز آنذاك الأمير (الملك) فيصل بن عبدالعزيز الذي عُرف بحصافة الرأي والفكر الثاقب، وعلم أن ما كتبه العواد إنما هو مجرد (نقد) لبعض الممارسات والعادات والأعراف، ولبعض جوانب القصور في بعض المؤسسات. على هذه الرؤية الواعية من الفيصل كان رده على الواشِين بعبارة خالدة تُكتب حروفها بالذهب الخالص، حينما قال «الفكر يقارَع بالفكر»، فغدت مقولته نهجًا ينتهجه العقلاء والواثقون والمنصفون مع من اختلف معهم، أو وجَّه لهم نقدًا، وأضاف الفيصل في رده -بحسب ما أورده علي العميم في مقاله بالشرق الأوسط- «إنما هي أفكار كُتبت بالقلم، فإذا أردتم أن تحاربوه، فحاربوه بالقلم نفسه، حاربوه بالسلاح نفسه الذي حاربكم به، وهذه آراؤه وتلك حججه، فالمجال مفتوح أمامكم، اكتبوا وألِّفوا وانشروا في الجريدة الرسمية وفنِّدوا هذا النقد».
إن أحسنَّا الظن فيمكن رد بعض القراءات المغالِطة المصادِرة لمضمون الخطاب -أي خطاب- التي يُصدِّرها بعض الأفراد والجهات إلى العجلة وعدم التركيز في مضامين الخطاب، ولذا تأتي أحكامهم وهي تحمل سوءَ الظن، وقلبَ الحقائق، والتشكيكَ في مقصود منتِج الخطاب، تأتي وهي تنظر للخطاب من زاوية لا تقبل بتعدد التأويل، في حين تؤكد د. شما آل نهيان في مقالها بصحيفة الاتحاد على «أن الخطاب الواحد يحمل معاني ودلالات متنوعة، ولا توجد طريقة واحدة لفهم الخطاب وتحليله، فالخطاب الواحد يقبل أكثر من قراءة وأكثر من تأويل». قراءة الخطاب تُعد أمرًا سهلاً وميسورًا، وتُعد مضامينه واضحة بينة لا تحتمل تأويلات بعيدة، فقط عند من يقرؤه قراءة متجردة من الأحكام المسبقة، أما من يقرؤه وهو مضمِرٌ حُكمَه منذ قراءته للعنوان أو لاسم كاتبه فستكون قراءته إقصائية، وبالتالي لن تصمد الحقائق المترع بها الخطاب أمام هذا الحُكم الإقصائي، وستتحول في عُرف هذا القارئ وأمثاله إلى جرائم تُستخدَم ضد منتِج الخطاب، مع أن القراءة الموضوعية المنصفة كما يذكر عزيز التميمي في مقاله (القراءة بين الاكتشاف والتأويل) في منتدى معابر على الشبكة «لا يمكن أن تؤكِّد مفهومَها بعيدًا عن أرضية النصِّ المكتوب». القراءة ذات الحُكم الإقصائي والنية المبيتة تُحيل موضوعيةَ متنِ الخطابِ وسلامةَ مقاصدِه ونُبلَ غاياته إلى هامشٍ تتسابق عليه القراءات الفوضوية الواهمة وغير البريئة، وهذا النوع من القراءات صورة صادقة لقوله تعالى: «يُحرِّفون الكَلِم عن مواضعه»؛ فَهُم لا يركِّزون على مضامين الخطاب ويحاكمونه في ضوئها؛ وإنما يذهبون بعيدًا، في نزوعٍ مكشوفٍ للمغالطةِ والإقصاءِ؛ بتحميلِهم الخطابَ ما لا يحتمل.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store