Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريـف قـنديـل

المسرح الغنائي من الشيخة حميدة للشاعر عبد المنعم قنديل!

A A
لم يكن لدخولي مسرح الريحاني في القاهرة وغيره من مسارح ضخمة في الأسكندرية ومدن العالم أي رهبة!، ولم أكن أشعر وأنا أحضر الحفلات الغنائية بما فيها تلك التي أقامتها فيروز تحت سفح الهرم الأكبر، بأي ضعف أو تقزُّم!

كان لقريتي مسرح جميل في شرفة مبنى النادي المطلة على فناء واسع.. يجلس الحضور في الصف الأول على عدد من الكراسي الخزيران، فيما بقية الحاضرين يفترشون الأرض انتظاراً لبدء العرض.

وكنت قد بدأت أمشي وحدي أو مع صديقي «علي» مساءً، في المسافة من دار الهلالية الى المسرح المفتوح حيث تقف المنشدة «الشيخة حميدة» لتقدم وصلتها الغنائية الإنشادية.. كانت السيدة متأنقة وقورة، تمسك في يدها بمنديل وتحاكي كوكب الشرق في وقفتها.. لن أنسى ما حييت طلتها وصدى بسمتها.. تستقبل آهات الترحيب، ولا يصدر منها ومن السامعين لها أي عيب!.

كان ملعب القرية يتحول الى مسرح مفتوح أكبر من الذي نراه الآن في دار الأوبرا المصرية، حيث يستخدمه أهالي القرية في صلاة العيد.. وكان السعيد فينا من يستطيع الصعود، الى سطح بيت قريب.. كانت «الشيخة حميدة» تغني وتنشد لنا، وطيور المساء تحييها وتغني لها، وكرَوانات الفجر تغني لنا ولها.

ماتت الشيخة حميدة فبكتها القرية، وكان شاعر العامية الكبير ابن الرملة عبد المنعم قنديل يعود من القاهرة، تاركاً فرقة عبد الرحمن الخميسي أحد عمالقة المسرح الغنائي في مصر.. لقد مرض والد شاعرنا، وكان لابد من عودته! تأمل حوله بعد ممات والده، وامتلاكه الوقت الكافي، وقرر تكوين فرقة مسرحية من فتيان القرية، هم الآن مهندسون وأطباء وفنانون وصحفيون ومعلمون وشعراء يملأون الدنيا.

والواقع أن عبد المنعم قنديل لم يكن يبحث عن مجد أو شهرة، وهو الذي ملأ الاذاعة المصرية بأغنياته الجميلة التي غنتها المطربتان الشهيرتان في ذلك الوقت، حورية حسن وثناء ندا.. كان الرجل ينفق على الفرقة القروية من جيبه، ومن ثم فهو لا يبحث كذلك عن مال أو دخل إضافي.. لقد كان لدى عبد المنعم فائض في الشعر وفائض في التمثيل وفائض في التأليف والاخراج المسرحي، وفي نهاية كل عرض يأخذ الفتيان أو يدخل بهم في مسابقة هنا وأخرى هناك.

لقد فتح هذا الرجل الذي غنت له ثناء ندا «شباك فرحنا بنور» لفريق الأولاد صفحات من قلبه.. لقد فتح لهم أبواباً للإبداع والتفوق والنبوغ في سنواتهم المقبلة.. يريد لهذا الولد أن يقفز في تعبيره عن رفضه للظلم، كما الفهد، وللعامل الماهر أن يجيد الركض في الميدان، كما الحصان.. وللفلاح أن يصرخ ويحتد إذا عبث أحدهم عند فرقِ الحد.. يقدم للأولاد النصيحة تلو النصيحة.. ينشرح وهو يشرح، يذهب لبيته محاولاً النوم، قبل أن يعدو خلفهم في الحلم.. فحياته كلها مسرح!.

الآن، فهمت هذا الخيط السحري، الذي كان يربط هذا الرجل بالفتيان، حيث يمشون معه ومن خلفه أينما ذهب.. لقد سافر بهم ذات مرة الى مسرح «متروبول» حيث تقف فرقة أمين الهنيدي، بعد أن حصد معهم وبهم كأس المحافظة من خلال أوبريته الجميل «الذهب الأبيض».. حينها لم يكن الفتيان الصغار يدركون أن معلمهم ملأ مسارح القاهرة بالأوبريتات والأغاني الثائرة والجميلة، وأن كبار ملحني مصر من أمثال محمود الشريف، وأحمد صدقي، وفؤاد حلمي، وعزت الجاهلي قد لحنوا له.

كان عبد المنعم قنديل الذي قدم على مسرح نادي الطائف الأدبي بالسعودية أول مسرحية، يحاكي أستاذه وصديقه عبد الرحمن الخميسي.. يخرج من مطب الى مطب، وفي كل جوانب الفن يجري ويدب.. يجمع كل ما يلقى عليه من طوب النقد، ويبني به مسرحاً، ويتولى الرد بهدوء وحب!

يصمت الأستاذ عبد المنعم ويعكف أحياناً عن الكلام، فنحسبه الرجل الصامت.. يتضجر ويصرخ أحيانا فنقول الرجل الساخط.. يبكي أحياناً، ثم يضيء وجهه، ونلمح الدمعة والفرحة في آن واحد.

كنت أتحدث مع الشاعر الجميل مصطفى عبد المجيد سليم بالأمس، فاكتشفت أن القرية المصرية، ليست مجرد تاريخ طويل، بل جمال مستحيل، يتوارثه الأبناء والأحفاد جيلاً بعد جيل.. اكتشفت كذلك أنني كلما كتبت أيقنت أن كتابتي عنها ابتداء لا انتهاء، وأنها امتداد.. لا نكوص أو تحسر على الماضي،.. ولا ارتداد!

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store