Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عاصم حمدان

دروس وشخصيات علمية بين المسجدين الشريفين

رؤية فكرية

A A
تعرّضنا في المقالة السابقة لعادة الرّكب المكّية الاجتماعية، وركّزنا على مظاهر استقبال الرّكب في أحياء المدينة المنوّرة، بداية من وصوله إلى ساحة المسجد النّبويّ الشّريف، والتي كانت تسمّى باسم «ساحة باب السّلام»، وكانت الدواب التي يركبها أصحابها في مسيرتهم من مكّة المكرمة إلى المدينة المنوّرة تحطّ ساكنة ومطمئنة ومتشوّقة عند عتبة باب السلام، وبعد أداء السلام عليه، صلّى الله عليه وسلّم، وعلى صاحبيه رضي الله عنهما، تعود هذه الرّكائب بإمرة أصحابها إلى المواضع والأمكنة التي اعتادوا أن يحلّوا فيها؛ ضيوفًا عند إخوانهم من أهل المدينة المنوّرة.

واليوم؛ نحاول أن نُلقي الضوء على ما كان يقوم به بعض علماء مكة المكرمة في شهر رجب أيضًا، فقد كان بعضهم لا ينقطع عن أداء الدرس، وله مريدون في طيبة الطيبة، كما له مريدون في البيت الحرام. ولعلي عاصرت زيارة شيخنا المُحقّق والفقيه حسن المشّاط، والذي كان يحلّ ضيفًا في مدرسة دار العلوم الشرعية، بصحبة بعض مريديه وطلّابه، وكذلك كان فضيلة السيّد علوي المالكي، ومن بعده ابنه فضيلة السيّد محمّد بن علوي المالكي، يقضون أوقاتًا روحانية ممتعة في رحاب مسجد سيدنا رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم. وكان شيخنا السيد علوي يحلّ ضيفًا في مكتبة عارف حكمت، التي كانت تقوم في الجهة الجنوبية من المسجد النّبويّ الطّاهر. وكان -كما علمتُ من كبار القوم في المدينة المنوّرة- يعقد درسًا في مكتبة عارف حكمت بعد عصر كل يوم. ولقد شاهدتُ في 1387هـ فضيلة السيد علوي يأتي لزيارة صديقه السيد حسن طاهر، والذي كان مجلسه في الدكّة الصغيرة، القريبة من دكّة الأغوات، وكان يلاطفه ويداعبه بلغة محبّبة، تنبئ عن العلاقة المتينة بين الرجلين. وأذكر أنّه من تواضعه -رحمه الله- أنني وصديق لي سرنا خلفه حتى دخل الدّار التي ينزل فيها في حيّ الساحة، وطرقنا الباب، ففتحه أحد الطلّاب، ففرح بنا فضيلته، وسألَنا عن باعث مجيئنا، فذكرت له أننا نريد الإجازة في الحديث النّبويّ الشريف، فابتسم ومدّ يده إلينا، وأجازنا في مروياته، وقد جددت هذه الإجازة من قِبَل ابنه فضيلة السيد محمّد بن علوي المالكي، قبل وفاته، روايةً وكتابة، ممّا أعتزّ به، وأسأل الله الرحمة والغفران لمشايخنا.

ومن العلماء الذين كانوا يؤدون واجب زيارة النبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، فضيلة شيخنا محمّد نور سيف، المعروف بتمكّنه في فقه إمام دار الهجرة، الإمام مالك بن أنس، رضي الله عنه. وقد ظلّ شيخنا -رحمه الله- مدّة عام كامل، وتحديدًا في سنة 1391هـ، مقيمًا في المدينة المنوّرة، وفتح درسًا في الحديث النّبويّ الشّريف بالقرب من خوخة سيدنا أبي بكر الصديق، رضي الله عنه وأرضاه. وكان شيخنا وقدوتنا من أكثر علماء عصره زهدًا. ولعلّي أدوّن هنا شهادة مهمة؛ فلقد كنت في زيارة لفضيلة شيخنا عبدالله خيّاط -رحمه الله- إمام وخطيب المسجد الحرام لفترة من الزمن، وجاء ذكر الشيخ محمّد نور سيف، فرأيت دمعة تنسكب على خده، وقال: قليل من العلماء في هذا العصر من في زهد الشيخ سيف.

وهكذا كان العلماء؛ يقدّرون منازل بعضهم البعض، وكان من أكثر من تنطوي شخصيته على الاعتراف بالعلماء، على اختلاف مشاربهم؛ هو سماحة الشيخ عبدالله بن حميد، ثم من بعده ابنه صديقنا فضيلة الشيخ صالح بن حميد. وكان على هذا المشرب نفسه فضيلة شيخنا إمام المسجد المكيّ الشريف، الشيخ محمّد السبيّل، ويبدو هذا الانفتاح في تعامل أبنائه مع الآخرين، وخصوصًا ابنه الأديب والنّاقد الدكتور عبدالعزيز السبيّل، أمين عام جائزة الملك فيصل.

وإذا ذكرت الأماكن والدور المباركة في المدينة المنوّرة، التي كان يُتلى فيها القرآن الكريم، وتذكر فيها أحداث السيرة النّبويّة، فلا بد من ذكر دار شيخنا محمّد شقرون، رحمه الله، ودار شيخنا الحافظ لكتاب الله، الشيخ حسين أبوالعلا. ولقد كان الشيخ أبوالعلا يقيم كل عام في عيد رمضان حولية في بستانه، الذي كان يقوم على مدخل حيّ قربان الشهير بالمدينة المنوّرة. ولقد استمعت في تلك المناسبة إلى الشيخ المادح للنبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، والفقيه الشافعي؛ الشيخ زيني بويان. وكان فضيلة السيد محمّد أمين كُتبي يدوّن في كل عام حولية في مدح النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وفي إحدى المناسبات أنشد الشيخ زيني حولية السيد كتبي في ذلك العام، وعندما جاء للأبيات التي تقول:

فاسألْ به البيتَ العظيم، وسلْ به

الشِّعبَ الكريم إلى حُجُون كداءِ

واسألْ بباب الباسطية شاعرًا

غرِدًا يُجبْك بأصدق الأنباء

المصطفى روحُ الوجود وسرُّه

وسراجه في الليلة الظلماء

وكان من بين الحضور معالي السيد حسن كُتبي، وزير الحجّ آنذاك، وابن عمّ السيد أمين، فما إن نطق المنشد بكلمة «باب الباسطية»، وهو من أبواب المسجد الحرام المعروفة، حتى رأيت معالي السيد حسن يذرف الدّمع غزيرًا متذكّرًا البيت الحرام وزمزم والحطيم، كما تذكّر ذلك الوجه المضيء، واللسان الذرب، والعلم الواسع، والتواضع الجم، أعني بذلك فضيلة شيخنا السيد محمّد أمين الكتبي الحسني، رحمه الله رحمة الأبرار.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store