Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محسن علي السهيمي

مجتمع ما بعد الفرمتة

A A
لو أخذنا عينة عشوائية من المجتمع، ووجهنا لكل فرد من أفرادها هذا السؤال: ممَّ تشكو؟ لأجاب معظمهم، إن لم يكن جميعهم: من عدم البركة في الوقت والمال، ومن كثرة الديون، وتردِّي الحالة الصحية، ومشقة الارتباطات الاجتماعية وتكاليفها، مع أن مرتباتهم طيبة ومداخيلهم متعددة. في المقابل لو توجهنا بالسؤال نفسه للإخوة المقيمِين بيننا ممن لديهم وظائف ذات دخل محدود، وتقيم أسرهم معهم، لما وجدنا لديهم كل تلك الشكاوى. ظل هذا التباين محل تساؤل؛ في محاولة لإيجاد إجابة شافية عن السر وراءه، فترى البعضَ يُرجع ذلك التباين للمستوى التعليمي، وبعضهم يُرجعه لكثرة الأولاد، وبعضهم للبيئة الاجتماعية، وبعضهم لقلة الوعي. لن نذهب بعيدًا خلف السبب وراء كل ذلك، حيث يأتي ضغط العادات المجتمعية في الدرجة الأولى، وعليه أصبح معظم أفراد المجتمع يسير في هذا الاتجاه، وبالتالي تغدو مصادمته أو حتى مخالفته جُرمًا كبيرًا لا يستطيعه إلا الموفقون، حتى قال القائل إننا لن نستطيع الفكاك من عاداتنا، وليس بوسعنا أن نتزحزح عما ألِفناه من آبائنا وأجدادنا -مع أن آباءهم وأجدادهم عاشوا فقرًا وعوزًا- وبعضهم جعل تقنين تلك العادات خَرمًا للمروءة، وبعضهم نظر إليها من منظور قَبَلي، وبعضهم جعل من المساس بها مساسًا ببعض قِيَم الدِّين، حتى أصبحت تلك العادات عقيدة لازمة لأغلب أفراد المجتمع، ما أودى ببعضهم لبراثن الديون وقاعات المحاكم. وكم تكلم المشفقون، وحذَّر الواعون، ولسان حال المرتَهَنِين لتلك العادات يقول: كيف لنا أن نشذ عن القاعدة ونتخلى عن قِيمنا وعاداتنا؟ فنحن «وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون»، مع أن آباءهم لم يعرفوا شيئًا من هذا. في خضم إصرار المُرتَهَنِين لتلك العادات على صعوبة الفكاك منها جاء فيروس كورونا ليصعق الجميع، ويغير المفاهيم، ويعيد الأمور إلى نصابها؛ ففي طرفة عين تخلى الجميع عما أَلِفوه، وهم الذين كانوا يؤكدون صعوبةَ التخلي عنه؛ فرأينا كيف أن الحظر -الذي جاء بفعل كورونا- جعل الناس يستقرون في منازلهم بعد أن هجروها، رأيناهم وقد اكتفوا بطعام منازلهم، وأراحوا سياراتهم، ووفروا وقودها، وتلاشت ارتباطاتهم الاجتماعية، واستغنوا عن كثير من الكماليات، وتوفرت ميزانياتهم، ووجدوا وقتًا يلتقطون فيه أنفاسهم، وعكفوا على مكتباتهم تأليفًا وقراءة، والتفتوا لأولادهم، بل من كان يأخذ منه زواج ابنته أيامًا وينفق عليه أموالاً طائلة ويَشقُّ على النساء بالحضور اختصر ذلك في (١٠) دقائق وبعضٍ من القهوة والشاي ونساءٍ معدودات على أصابع اليد الواحدة، وبالمثل في جانب الرجال. أجزم أن فيروس كورونا قد كشف لنا السر وراء عدم البركة في أموالنا مع تضخم مرتبات أكثرنا، مقابل البركة في أموال الموظفِين من المقيمِين مع محدودية مرتباتهم، فضلاً عن عدم البركة في الوقت، وغير ذلك؛ إذ جعلَنا هذا الفيروس نعيش حياة اجتماعية قريبة من نمط حياة المقيمِين، وهو الأمر الذي كان له انعكاساته الإيجابية؛ حيث أزحنا كثيرًا من الإصر والأغلال المجتمعية التي كانت علينا، وأرهقتنا ماديًّا ومعنويًّا، وذهبت بأوقاتنا وصحتنا وأموالنا، وشتت أُسرَنا، وكشف لنا أنه من السهولة التخلي عن تلك العادات، وعرفنا حينها لماذا بورك للمقيمِين في أولادهم وأموالهم وأوقاتهم. المجتمع اليوم في حالة (فرمته)، وهو أشبه بسيارة كثُرت أعطالها؛ نتيجة الاستخدام الجائر لها، وقد تم إدخالها ورشة صيانة، وتم ترميم أجزائها وإصلاح خللها وترصيصها وإعادة التوازن لها، وقريبًا ستعاود الحركة، ولذا يأتي السؤال: هل أجْدَتْ هذه (الفرمتة) وأقنعت المجتمع (بفرملة) كل شيء؛ حتى تمضي سفينة الحياة بشكلها الطبيعي لا المصطنَع، خصوصًا وقد رأى -عين اليقين- الفارق بين أسلوبَي الحياة (قبل وأثناء كورونا)، وعلم خطأه، وعرف حجم فوضويته وتبذيره وإهداره لماله ووقته؟ أم أنه بعد انجلاء الكَرب سينقلب على عقبيه ويعود لممارسة ما نُهِي عنه؟.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store