Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عاصم حمدان

من الذاكرة الرمضانية.. مجلس أحمد زكي يماني

رؤية فكرية

A A
مع حلول شهر الصّوم المبارك تتداعى إلى الذّهن صور من ذكريات الأمس الجميل، ولقد استقرّ في ذهن العبد الفقير إلى الله، الكثير من الصّور المضيئة عن بعض المجالس الرمضانية، ومن بينها مجلس معالي السيد أحمد زكي يماني؛ حيث كان -شافاه الله- يقضي النّصف الأوّل من أيّام الشّهر في مدينة جدّة، ثمّ يصعد إلى مكّة المكرمة، مهوى فؤاده، ومستقرّ حبّه وتعلّقه، ويحرص على أداء صلاة العيد بطيبة الطيبة.

ولعلّي أتوقّف عن قصد عند مجلسه الرمضاني في جدة، فهو يستقبل أصدقاءه وأحبابه قبل وبعد الإفطار بما يقرب من ساعة من الزمن، ويمكن لروّاد ذلك المجلس أن يستعيدوا تلك الحفاوة التي يستقبل بها ضيوفه من جميع طبقات المجتمع، حتى إذا ما انقضت صلاة المغرب، والتي كان يؤمّنا فيها الحافظ لكتاب الله الشيخ عبدالوهّاب الحضيري، وجدته في حالة نشوة وسرور، حريصًا على الوقوف بجانب المائدة الرمضانية المكّيّة، ويأخذ الأطباق بنفسه ليقدّمها لضيوفه. وعندما كانت والدته -رحمها الله- على قيد الحياة، كان يحرص -شافاه الله- على الانكفاء على قدميها، ومن ثمّ مداعبتها، ولا يترك مجلسها إلّا وقد انعكس على محيّاها ذلك الشُّعور الطّاغي بالفرح والسّرور.

وبعد انقضاء وقت الإفطار يعود إلى مجلسه مودّعًا بعض الأحباب بعد أن شاركوه ذلك الإفطار الرمضاني، الذي يمكن وصفه، من دون مبالغة ، بالبديع والرائع والحميم. ويبقى البعض معه لأداء صلاة التراويح. ولعلّي لاحظت شيئًا مهمًا في سلوكيّات هذا الإنسان؛ وهو أنّه في مجلسه يحرص على أن يقوم من مقعده ليسلّم على القادم عليه؛ صغيرًا كان أم كبيرًا. ولقد نبّهني الإنسان المهذّب المرحوم الأستاذ محمّد صلاح الدين الدندراوي إلى أنّه عند قيامه لاستقبال الضّيف ينهض أبناؤه كذلك وقوفًا، حتّى وإن كانوا جلوسًا في مؤخّرة المجلس. ولعلّي لا أذيع سرًّا إذا ما ذكرت اليوم بأنّني كنت ذات يوم جالسًا معه في المقصورة الخارجية، ودار شيء من الحديث عن أبنائه وطرق حياتهم؛ فإذا هو يتوجّه بنظره في الأفق البعيد، ويقول في شيء من الشجن: ذلك الفضل يعود إلى والدتهم وحرصها على تربيتهم بمحافظة.

ولعلّ نشوء السيد أحمد زكي يماني في بيت علم؛ حيث إنّ والده السيد حسن، وجدّه السيد سعيد يماني، كانا مرجعين في الفقه الشّافعي بالمسجد الحرام، كما يشيد دومًا بدور أعمامه في حياته، التي كرّس فيها أوقاتًا زاخرة بالعلم والمعرفة، وخصوصًا في حلقات المشايخ: حسن المشّاط، وعمر بن حمدان المحرسي، ومحمّد بن مانع، وعبدالله دردوم، ومحمّد العربي التبّاني، وسواهم.

وكان -رعاه الله- حريصًا على برّهم بالسّؤال عنهم إذا ما أضحوا أحلاس بيوتهم. وأتذكّر أنّني صحبته في زيارة لأستاذ الجيل السيد أحمد العربي، عندما كان يتلقّى العلاج في المستشفى، وكانت فرحة السيّد العربي بتلك الزّيارة التي تجسّد معاني النّبل والوفاء والشّهامة، كبيرة. وعندما كان -شافاه الله- يقضي إجازته الصيفية خارج أرض الوطن، كان يحرص بين الحين والآخر على مهاتفة أحبابه، وروّاد مجلسه، وقضاء حوائجهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. وكان كثيرًا ما يُوصي؛ بل ويشدّد في الوصاية، بأن يبتعد الآخرون عن الإشارة إلى ما يتفضّل به ويحسن، قاصدًا بذلك وجه الله ورضاه، وصلة الرّحم وإحسانه. وقد أخبرني أحد أفراد دائرة أحبابه الخُلّص بأنّ صديقًا له توفي والده، وهو -أي السيد زكي- في رحلة خاصّة، فهاتفه مواسيًا ومخفّفًا عليه ما تركه فراق والده عليه من أسى وحزن. والغريب في الأمر أنّه لمّا عاد من رحلته إلى أرض الوطن، طلب من أحد الخُلّص العاملين معه بأن يرتّب موعدًا مع ذلك الصديق ليواسيه في بيته، ويعتبر ذلك شأوًا بعيدًا في باب المودّة الصّادقة، والمحبّة التي تتعالى على الصّغائر، وتسلك بصاحبها سبل ودروب التقرّب من الله، الذي يحفل كتابه الكريم، وسنّة نبيه المصطفى، صلّى الله عليه وسلّم، بما يدخل في باب الورع والتقوى وطهارة الباطن، الذي يغذّيه ذكر الله، والذي يستأنس به الصّالحون في خلواتهم.

لله من زمن الأحبّة وودادهم، بعد الطريق، وطال الشوق، وما يزال القلب على الوداد مقيماً، يقظًا بذكراكم، حفيًّا بها، يؤنسه قول شيخنا العلّامة السيد محمّد أمين كتبي الحسني، مادحًا سيدنا النبي، صلّى الله عليه وسلّم، وصحابته، وآل بيته الأطهار، رضي الله عنهم أجمعين:

اللهُ صَوّرَكُمْ فَأَحْسَنْ

سَوَّى مَحَاسِنَكُمْ فَأَتْقَنْ

وأقامَ مِنْكُمْ شَاهِدًا

مُتَمَكِّنًا في الحُسْنِ أمْكَنْ

وأكَنَّ فِي قَلْبِي هَوَاكُمْ

يا بَنِي الزَّهْرَاءِ فاْكْتَنْ

إلى أن يقول في تلك الخريدة المصاغة بمداد الحب، وذوق المحب الأديب:

إنّ الّذي صَاغَ الفَضَا

ئلَ صَوْغَ مُقْتَدرٍ تَفَنّنْ

حَلّاكُمُو وحَباكُمُو

مِنْها بأجْمَلِها وزَيَّنْ

أخْلاقُكُمْ أبدًا كَمَا

شَاهدْتُها وَرْدٌ وسَوْسَنْ

الدِّيْنُ والنَّسَبُ الزَّكِـــــ

ــيُّ الطُّهْرُ والحَسَبُ المُعَنْعَنْ

والنَّاسُ لَوْ وُزِنُوا بِكُمْ

كُنْتُم بفضلِ اللهِ أوْزَنْ

ما زِلْتُ مَسْرورًا بِكُمْ

وهَواكُمُوا عِنْدِي مُدَوّنْ

دَوَّنْتُهُ بيراعِ صِدْقٍ

في فؤادٍ لَمْ يُخَوَّنْ

ونَقَشْتُ حُبَّكُمُو على

صَفَحَاتِهِ حتَّى تَمَكّنْ

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store