Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محسن علي السهيمي

آمَنَ.. فهلَّا آمنتم؟

A A
أن يأتي الرأي في بعض الإشكاليات عربيًّا فذاك أدعى لمصادرته وعدم القبول به؛ تحت ذريعة أن العرب لم يَصلوا في آرائهم لدرجة الموضوعية، لكن أن يأتي من الخارج -وخاصة من حيث تغرب الشمس- فذلك أدعى للقبول به؛ خصوصًا والتاريخ العربي القريب يشي بجملة من الآراء التي أقرَّها الغرب وصادق عليها العربُ برضا واطمئنان. من هذه المسلَّمة ننطلق لقضية اختلف عليها بنو يعرب، وهي (نظرية المؤامرة) التي يُعرِّفها حسن عدوة -في موقع مجتمع على الشبكة- بأنها «محاولة تفسير أحداث ضارة أو مأساوية تحمل في مضمونها وصيغتها دلالة على التآمر، فتدحض جميع البراهين والتفسيرات المحيطة بتلك الأحداث». المؤامرة -من حيث الأصل- أمر حاصل ولا يمكن أن يخلو منها مجتمع مهما زاد علمه وارتقت ثقافته، لكنها نسبية، ومن سوء حظ العرب أن الإشكاليات والمصائب تتالت عليهم من كل جانب، وهو ما عزز فيهم نظرية المؤامرة. وبالنظر للمجتمعات العربية نجد أن نظرية المؤامرة تأخذ عندهم مسارَين، مسار المصادقِين عليها، وتتبناه التيارات المحافظة فتفسر به كل ضرر يلحق بالعرب والمسلمِين وتجيره للغرب خاصة، في الطرف الآخر لا ترى بقية التيارات العربية (قومية، ليبرالية..) أي دور للغرب فيما يحل بالعرب من إشكاليات ومصائب، بل تدعو للاقتداء به في إزاحته -ظاهريًّا- نظرية المؤامرة من عقليته. ظل النزاع بين التيارات العربية على قضية المؤامرة قائمًا، وظلت الكفة في معظم الأحوال لا تميل للمحافظِين لاعتبارات كثيرة، حتى ظهر أخيرًا فيروس كورونا لتظهر نظرية المؤامرة على السطح بوضوح، لكنها هذه المرة ليست بصبغة عربية (كالعادة)؛ وإنما غربية بحتة، في منظر مغاير للمشهد المألوف، ما أحرج معه بعض التيارات العربية؛ حين آمن الغرب بنظرية المؤامرة، وهو الذي كان يصادرها -ظاهريًّا- فيجد رأيه هذا صدىً واسعًا عند بعض التيارات العربية. والأعجب أن نظرية المؤامرة تنطلق اليوم لا من التيارات الغربية فحسب؛ وإنما من أعلى السلطات السياسية في الغرب (المتنور الواعي)، فنرى تلك السلطات تتهم الصين بأنها وراء فيروس كورونا، وأنها تريد بفعلتها هذه المكيدة للغرب وتدمير اقتصاده، وغيرها من الاتهامات التي رددها بعض الساسة الغربيين ومن خلفهم تياراتهم المختلفة ومنظماتهم. لا ننسى أنه قبل إيمان الغرب بالمؤامرة -مع أنه مؤمن بها أصلاً لكن ظروفها لم تتشكل ليُفصح عن إيمانه بها- كان المثقفون العرب مؤمنِين بالمؤامرة في دواخلهم مع أنهم ينكرونها ظاهريًّا؛ كونهم لم يتعرضوا لضرر يستوجب إظهار إيمانهم بها، وعندما وقع عليهم (بعض الضرر) تبين أنهم يؤمنون بها، وقد كتبت -قبل عَقد من الزمان- عن ذلك مقالاً هنا بعنوان (آمن المثقفون بالمؤامرة) وضربت مثلاً برمزَين عربيين مثقفَين كبيرين هما الدكتور غازي القصيبي رحمه الله حينما خسر رهان رئاسة (اليونسكو) فجير ذلك للمؤامرة، وألف عنها رواية سماها (دنسكو)، والرمز الأخير وزير الثقافة المصري الأسبق فاروق حسني للظروف نفسها، ومِثلُ المثقفِين الساسةُ العرب الذين بدورهم لا يؤمنون بنظرية المؤامرة إلا عندما تتعرض كياناتهم للخطر. إيمان الغرب أخيرًا بالمؤامرة بمجرد ظهور كورونا في أقصى المشرق يجعلنا نتساءل: كيف لو غرس المشرقُ (الصينُ أو العربُ) في خاصرة الغرب كيانًا احتلاليًّا مسلحًا؟ كيف لو احتل المشرق بعضَ دول الغرب وعاث فيها فسادًا؟ كيف لو كثُرت تدخلات المشرق وتحرشاته وتحريشاته بحق الغرب؟ أجزم أنها ستظهر نظريات غربية أشد وطأ من نظرية المؤامرة. هذا لا يعني أن نفسر كل (عطسة) غربية بالمؤامرة ، فذلك دليل ضعف وعجز، لكنه يعني ألا نُبرِّئ الغرب وننفي عنه (كليًّا) المؤامرة، فذلك دليل سذاجة وبلاهة. أَمَا وقد آمن الغرب بنظرية المؤامرة -لأدنى ضرر أصابه مقارنة بما ألحقه هو بغيره- فهل آن الأوان لبعض التيارات العربية أن تسلك مسلكه -وهو القدوة- فتؤمن بأن المؤامرة جينة كامنة في الجميع؟ فالظالم يؤكدها بممارسته الظلم، والمظلوم يؤكدها حين يشكو المَظلمة، ولا ينفيها وينكرها إلا (غالبٌ أو أبله).
ألتقيكم -بإذن الله- منتصف شوال القادم.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store