Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عاصم حمدان

كورونا.. وجناية المفاهيم المادية الحديثة

رؤية فكرية

A A
حفّزني كلّ من الأخوين؛ الدكتور عمر أبورزيزة، والدكتور محمّد خضر عريف، إلى نقل مزيد من صور الماضي البعيد إلى الحاضر القريب؛ فلئن كانت الحياة في الماضي طبيعية وبسيطة، مع شيء من المشقّة المادية، فإنها في هذا الزمن الذي نعيشه أكثر سهولة ويسرًا للتقدم، الذي طرأ على الحياة نفسها، ولكن الإنسان دفع ثمن هذا التقدّم المادي من حياته، وأضحت مفردات مثل: القلق والاكتئاب والعزلة والتوحّد، الأكثر تداولاً في كل المجتمعات، بغض النّظر عن دياناتها وتقاليدها الاجتماعية.

ولقد كان مثل هذا الضرب من ضروب التغيير يأخذ وقتًا حتى يتوطّن في البيئات الأخرى المتأثرة بالحياة الغربية المادية، ولعلّ عاصفة أو هائجة أو جائحة داء أو طاعون كورونا أوضح دليل على هذا المنحى الحضاري، فلقد استطاع -أي داء كورونا- أن يمحو الحدود والفواصل والحواجز بين الدول، فأضحى بلد في القارة الإفريقية مثلاً يتساوى مع بلد آخر في القارة الأوروبية، فالكمامات مثلاً هي أداة التعريف بالهوية وهروب الناس من التجمّعات والحشود، وربما يعتبر من عوامل إنقاذ المجتمعات من فيروس، يصعب حتى على الوسائل الطبية الأكثر تقدّمًا أن تعرف ماهيته وتكشف جذوره؛ بل صعب عليها معرفة العقار الذي يمكن أن يخفّف من آلام من مسّه أو أصابه شيء من الآثار المدمّرة لهذا المخلوق المجهول، والذي في لحظة من لحظات انشغال الإنسان وبُعده عن منابع الرّوح وتجلياتها الغيبية، في لحظة تبرهن وتدلّل على ضعف الإنسان، حتى وإن صعد إلى آفاق الفضاء، أو بلغ شيئًا من أغوار وأعماق الأرض، وتنادت المؤسّسات، ليس لاجتثاث هذا الداء بداية، ولكن فقط للحصول على جهاز للتنفّس، أو سرير في مستشفى، أو يدًا حانية تحدب عليه.

في ظل هذه المعلومات المتضاربة غفل البشر أو تغافلوا عن أن هذا الداء أصلاً يكمن في دواخلنا، فالالتجاء إلى المادة التي ألهمنا الله بناءها لتكون عاملاً مؤثّرًا أو فاعلاً في حياة هذا الإنسان، -أي الإنسان- نجده قد استخدمها في إيذاء أخيه في الإنسانية، ولم يعبأ أو يهتم هذا الإنسان الذي استقوى بالمفردات المتنوعة لهذه المادة، بصراخ وغياث أخيه، الذي يتضوّر جوعًا، وربّما اضطر إلى أكل الحشرات المؤذية، وشرب المياه الملوّثة.

ولم يسلم عالمنا الشرق أوسطي من هذه الآثار، فأضحينا نسمع بشباب يتخلّصون، بدوافع غير إيمانية ولا أخلاقية ولا إنسانية، من آبائهم وأمّهاتهم، ويلقون بهم في غير رحمة في المصحّات الإنسانية، ودور العجزة والمسنين، مجسدين بذلك صورة من صور العقوق المقيتة.. بل إن الأخ بات لا يعرف شيئًا عن حياة إخوته وحاجتهم إلى المؤازرة المادية والمعنوية؛ بل إن المادة أو المال أو العملة الخضراء أضحت هي الملجأ والمقصد، وموضع التفاخر والتباهي في المجتمعات.

لقد روى أحدهم على مسمعي قصّة حقيقية مفادها، أن امرأة مستورة قصدت رجلاً غنيًّا ليؤازرها في أجرة المنزل الذي تسكنه، فسألها الرجل: ما هي قرابتك مع فلان من الناس؟ فأجابته بأنه من أقرب الناس في عائلتهم لها.. فكان جوابه: قريبك هذا لو أخرج نصف زكاة ماله لكفت المحتاجين في ذلك البلد.. فخرجت المرأة وهي ترفع أكفّ الضراعة بأن يعطف قلب هذا القريب عليها.

هذه صورة من صور عديدة تغصّ بها حياتنا المادية اليوم، ولعلها أهون من قصص أخريات، تدمى لها القلوب، وتثقل بها الخواطر، وتتكدّر منها الحياة.. وتحملنا إلى النظر إلى هذه الجائحة وغيرها من المصائب التي تهمي علينا على اعتبارها جزاء وفاقًا لمن صار إليه حالنا اليوم، فهلا فتحت هذه الحائجة أبصارنا وبصائرنا، لندرك أن الخلاص كل الخلاص يكمن في البعد الروحي الغائب عن حياتنا، بعدٌ يغلّب قيمنا الإنسانية، ويحتفي بمكارم الأخلاق، وأحاسن الفضائل، ولا يتركنا نهبًا للمادة، وصرعى لسعارها الذي لا ينتهي.. أرجو صادقًا أن نعي جيدًا درس كورونا، فهو على قساوته وشدة وطأته في حياتنا اليوم، نذير وصوت تنبيه، فمن يعي ويعقل؟!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store