Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

خريف سنة 2012

A A
سئلت يومًا في محاورة تلفزيونية من أين جاءت فكرة كتابة رواية: أصابع لوليتا؟ التي كانت وقتها في قوائم البوكر، وفازت في السنة نفسها بجائزة الإبداع العربي، وترجمت إلى لغات عديدة، من أين جاءت فكرتها؟ هل حقيقي ما رُوي فيها؟ فجأة وجدتني أغوص في صلب الصدفة.. الصدفة التي لم تكن محسوبة مطلقًا.. كم من مشروع رواية ضاع بسبب أننا لم ندرك أن هناك صدفة ما تنتظرنا في زاوية مرت عابرة ولم ننتبه لها ولا لجدواها.. كنت يومها، في خريف 2012 أوقع روايتي: كتاب الأمير في نسختيها العربية والفرنسية، في معرض الجزائر.. كان الزوار كثيرون، بل أكثر مما تصورت إذ كانت سنوات كثيرة قد مرت على صدور رواية كتاب الأمير، في جناح Alpha Design ناشر كتبي باللغة الفرنسية في الجزائر باتفاق مع Actes Sud الفرنسية المالكة لحقوق النشر في باريس.

أول شيء انتابني هو العطر الناعم والأليف الذي تسرب إلى أنفي، حتى قبل أن أرى المرأة التي كانت تضعه.. نساء كثيرات كنّ في الصف لكن هذا العطر انفصل عن الكل ليسجن انتباهي فيه فقط.. رفعت رأسي بعفوية.. شيئان آثارا انتباهي.. جمال المرأة الواضح، أناقتها الغريبة على الرغم من لباسها البسيط، تذكرت مثال أمي لحظتها: الزّين يجي عليه كل شي.. أي أن الجميل يركب عليه أي لباس.. أثارني أيضًا وجهها الطفولي وعيناها الحاملتان لغموض يتجاوز حدود ما كنت أرى.. كانت قد تخطت الكثير من المنتظرين وجاءت إلى بداية الصف.. قالت، بالكاد سمعت صوتها: أريد أن توقع لي رواية الأمير وشرفات بحر الشمال.. قلت وأنا أبحث عن أكثر الوسائل أدبًا: لطفا حبيبتي، انتظري شوي فيه ناس قبلك وسأوقع لك الروايتين.. نظرت إليّ باستغراب، ثم غادرت الصف نهائيًا.. كان عدد الزوار كبيرًا.. في لحظة الاستراحة عادت وطلبت أن تتصور معي.. كانت تتحرك مثل طفلة صغيرة لا أدري لماذا تذكرت لحظتها لوليتا.. فقد بدت لي قريبة منها في تصرفاتها غير المحسوبة.. ثم أخذت الكتب وجاءت بها لتوقيعها في لحظة الاستراحة.. كانت برفقة أختها.. تمتمت في أذني وأنا أستعد للتوقيع: يجب أن يكون الإهداء خاصًا.. لا أدري ماذا كتبت يومها لكني أتذكر أني كتبت شيئًا قريبًا من هذه الجملة: لوليتا.. العطر مثل الصدفة، قاتل. ابتسمت، ثم انسحبت.. عرفت لاحقا أنها كانت صديقة في الفيسبوك ولكني لم انتبه لذلك.. ثم عرفت بعدها أنها تعمل في مجال الموضة وعرض الأزياء والفن.. ثم أصبحنا نتواصل ونتحدث عن هذا العالم الغريب الذي لم أفكر فيه أدبيًا أبدًا، وكانت هي تعرفه جيدًا..

والغريب أن هذه الصدفة تولدت عنها صدفة ثانية.. في باريس، في الفترة نفسها، كنت أشرف على طالبة يابانية في السوربون، تشتغل هي أيضًا في عالم الموضة لتمويل دروسها.. فجأة تقاطع الأمران.. في الفترة نفسها تلقيت هدية رأس السنة من صديقة ثالثة، كانت عبارة عن كتاب عن إيف سان لوران Yves Saint-Laurent مع كلمة لطيفة: هذا الرجل من بلدياتك.. بالفعل، إن مسقط رأسه هو مدينة وهران.. بدأت اقرأه لدرجة أني سحرت بحياته الشخصية وتفاصيل سيرته، وشعرت بقرابة استثنائية منه.. بالصدفة أيضًا كنت قد رأيت في الزمن نفسه فيلمًا عن حياة كوكو شانيل.. وجدتُني فجأة انضممت في عمق هذا العالم المدهش الذي كان تعبيرًا حقيقيًا عن الحرية والخروج من دائرة فرض الألبسة الثقيلة التي لا تحرر المرأة ولكنها تقيدها بقوة.. كان العالم لحظتها يعيش ضغطًا إرهابيًا وصعودًا مجنونًا، في فرنسا، للعنصرية ضد الأجنبي، والعربي تحديدًا، وتحمله سبب أزمة عالمية معقدة اقتصادية وأخلاقية.. تكاتفت هذه الصدف الغريبة لتجعل من أصابع لوليتا حقيقة موضوعية وتجعل من فكرة العطر وتوقيع كتاب في معرض فرانكفورت (في الرواية فقط) لحظتها الأولى.

من هذه الحيثيات التي ذكرتها والتي لا تحكمها إلا الصدفة الغريبة بدأت في كتابة الرواية.. كنت أريد أن أدخل عميقًا إلى هذا العالم ولا أبقى على الحافة الخارجية.. كانت في رأسي أربعة عناصر روائية: موضوع الإرهاب الذي كان وما يزال كارثة على الإنسانية، والأزمات الاقتصادية العالمية، إذ لا تنعزل الكتابة عما يحيط بها عالميًا، وألق الحياة التي ما تزال ممكنة على الرغم من القسوة اليومية، وأخيرًا الشكل الروائي الذي يستجيب لجوهر النص.. وبعد قراءات كثيرة في تاريخ الموضة ومساعدات كبيرة من فناني الموضة، بدأت أكتب أصابع لوليتا بحماس غريب.. إذ لم تكن هذه الرواية في النهاية إلا لحظة تأملية في مجتمع ما بعد الحداثة، في إخفاقاته المتتالية، في عنصريته وفي آماله أيضًا حتى ولو كانت ضئيلة.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store