Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محمد خضر عريف

كورونا والترابط الأسري

A A
من الملاحظ بوضوح خلال السنوات الأخيرة، ظاهرة التفكك الأسري في مجتمعنا السعودي العربي المسلم، وهي ظاهرة غريبة وغير مألوفة في مجتمع يقوم على المبادئ الإسلامية التي تحث على صلة الرحم، وبر ذوي القربي، والشيم العربية الأصيلة التي تدعو إلى إكرام الأقارب والأصهار و»الفزعة» لهم في النوازل والمحن ومشاركتهم في أفراحهم وأتراحهم، وكانت هذه الصلات الإسلامية والعربية قوية في الماضي القريب أو قل قبل أربعة عقود وما قبلها رغم أن وسائل التواصل المتوفرة في الوقت الحاضر لم تكن موجودة وكان محظوظًا جدًا من لديه خدمة الهاتف، والأكثر حظًا من لديه خدمة «الصفر» التي تمكنه من الاتصال بآخرين في مدن أخرى، ومازلت أذكر أننا كنا نكرر الاتصال عشرات المرات من مكة المكرمة حتى «يشبك» الخط مع جدة، وقد يستغرق ذلك ربع أو نصف ساعة.. والآن وبعد أن أصبح الاتصال بالقارات الست يحدث قبل ارتداد الطرف، نجد أن الصلات الأسرية قد تقلصت إلى أبعد حد، بل إن أبناء الأسرة الواحدة، قد لا يعرف بعضهم بعضًا، وأنا اتحدث هنا عن الأسر بمفهومها الاجتماعي العريض لمن يحملون لقبًا واحدًا، ناهيك عما يحدث كثيرًا هذه الأيام في نطاق الأسرة بمفهومها الضيق الذي يشمل بعد الأبوين والإخوة: أبناء العم وأبناء الخال والعمة والخالة وأبناءهم وبناتهم إلخ.. إذ أعلم علم اليقين أنه في معظم الأسر اليوم قد لا يعرف بعض الأبناء أبناء أعمامهم أو أخوالهم، وإذا ما التقوا في مناسبة ما من الأفراح أو الأتراح قد لا يسلم أحدهم على الآخر لأنه لا يعرفه.

إن كانت تلك الحال بين الأقربين، فما بالنا بأصحاب اللقب الواحد من أبناء الأسر الكبيرة التي اتسعت وازداد عدد أفرادها في الوقت الحاضر حتى وصل إلى الآلاف كما هي حال أسر مكية أو جداوية أو مدنية معروفة في الوقت الحاضر؟ لذا بات ضروريًا أن تبادر النخب من أبناء هذه الأسر العريقة وتسعى لإعادة الصلة بين أبناء الأسرة، وما عاد ذلك أمرًا صعبًا في ظل هذه النهضة والثورة الكبرى في وسائل الاتصال الحديثة المعتمدة على الثقافة الباهرة.

ومن عجب فإن أزمة كورونا الخانقة قد نبهت أبناء كثير من الأسر إلى جماليات التماسك والتواصل الأسري، بعد أن ابتعد الأبناء عن آبائهم، والإخوة عن إخوتهم، والأخلاء عن أخلائهم كرهًا لا طوعًا، خوفًا من انتقال العدوى، فتوقفت اللقاءات العائلية، وألغيت المناسبات الاجتماعية بكل أنواعها: أفراحًا وأتراحًا، فكم سمعنا أو قرأنا عن زفاف اقتصر على والدي العريس والعروس، وكم فقدنا في سنة (الكورونا) من حبيب أو قريب، وما استطعنا أن نشارك في دفن أو في عزاء، واكتفينا في المسرّات والآلام بتواصل عن بعد، إذ يسرت وسائل الاتصال المتقدمة لنا أن نعوض بعض ما بتنا نعجز عنه من واجب عائلي أو اجتماعي، مع الفارق الكبير طبعًا في الحميمية واقتراب الشخوص والقلوب وحظر المصافحة والعناق.. إلخ.

ومن عجب أيضًا أن بعض المقصرين في التواصل الأسري، أحسوا بقيمة ما فقدوه في أزمة كورونا، وباتوا يتمنون لو أن الزمن يعود بهم للوراء -وهو ما لا يحدث أبدًا- ليصلوا عمًا أو خالاً أو قريبًا أو حبيبًا، بعد أن فقدوه بسبب كورونا أو غيرهم.. وجعلتهم كورونا يستفيقون من سباتهم

، ويعاهدون أنفسهم على أن يدأبوا على التواصل مع الأهل والأقرباء خصوصًا بعد انجلاء الغمة وعودة الحياة إلى مسارها الطبيعي المعتاد.

لعلها فرصة سانحة، وضارة نافعة أن تزداد الأسر ترابطًا وتكاتفًا وتواصلاً بعد انجلاء كورونا، ليعود مجتمعنا العربي المسلم إلى سابق عهده من التماسك والتعاضد والتآلف.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store