Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريـف قـنديـل

كيف أكتب.. ولمن أكتب؟ إشكالية علاقة!

A A
قضيت بضع سنين في حيرة، دفعتني للتوقف عن الكتابة، والانصراف تمامًا لدائرة العمل الصحفي التنفيذي اليومي، حيث الانخراط في صياغة الأخبار وإعداد الصفحات، ونحو ذلك من أعمال يومية.

والحق أنني في مجال السياسة، لم تكن تنقصني الأفكار، ولا التقارير والأخبار، ولا المصادر الكبيرة والموثوقة من أصحاب القرار! نفضت عن نفسي غبار الحروب الطاحنة في أفغانستان وكشمير وأرتيريا والصومال، والنزاعات الأهلية في الجزائر، وبنجلاديش، والعراق، وجنوب السودان، ومحولات النهوض في تونس، وموريتانيا، وجزر المالديف، ولبنان، ونجاح الديمقراطية تقريبًا في الهند والسنغال، وأكثر من مكان، وقررت الابتعاد كي انتزع نفسي من قيود التصنيفات السياسية بل والفكرية، منحازًا لما يرتاح له ضميري، ومحلقًا أو محومًا فوق الجميع!

هكذا أغلقت الصفحة السياسية، إلا من قضية فلسطين، لاعتبارات وحيثيات أكثر من أن تعد.. ومضيت لأفتح صفحات أخرى من التأمل والجمال!

سريعًا عدت للقراءة، حيث بات من الواضح في هذه المرحلة أن الصحفيين يكتبون أكثر مما يقرأون! فضلاً عن إحساس معظمهم ومعهم قراؤهم أنهم وحدهم العالمون ببواطن الأمور ليس في محيطهم فقط، وإنما في سائر الدول!

تستيقظ كل صباح، فتجد جلجلة، ومفتين ومؤرخين ومحللين ومنظرين يجيبون بجرأة يحسدون عليها على كل الأسئلة!

عدت إلى الفلسفة وعلم الجمال، وكأن جان بول سارتر شخصيًا يستقبلني بترحاب شديد قائلاً: لا ينبغي للكاتب أن يصرفه اليأس أو الخمول، عن أن يقوم بعمله في توجيه إنتاجه جماليًا! ولا يصح أبدًا أن يفكر في نفسه عقب كل مقال قائلاً: آه ما أسعدني لو وجدت ثلاثة آلاف قارئ دفعة واحدة، بل يقول: ماذا يحدث لو قرأت كل الأجيال ما أكتب!

وعلى طريقة أرشميدس صرخت قائلاً: وجدتها! بدأت في الكتابة عن قريتي، والقرى المجاورة، كنموذج للريف المصري مقارنة بالريف البريطاني، والفرنسي، والألماني، والنمساوي، والبلجيكي، والإيطالي، استفادة من زياراتي المتعددة لتلك الدول، فيما يشبه أدب الرحلات، ثم انتقلت لسير العظماء في كل المجالات البسيطة والكبيرة فيما يشبه أدب التراجم.

وكنت ومازلت كل مساء، وقبل أن أخلد للنوم، أتخيل نفسي في الغرفة البحرية من بيتنا القديم، استنشق عبقها، فتصحو بقلبي وتتوهج زهرة الأشياء! أقوم من جديد، أشرب الشاي في كوب صغير، وأفيض.. صفاءً في صفاء.. تتفتح للبوح بقوة كل الذكريات البسيطة، فاستعيذ عذوبة الإحساس، وجمال الحروف المستفيقة!

لا تهمني أو تشغلني مسألة الوصف الخلاق، بحيث يكون الوصف لذاته، أو لمتعة في نفسي، بقدر ما يهمني أن يرى القارئ ما أكتبه بعين العاشق، وبحيث يكون الوصف «أخذ وعطاء».. أصف له الساقية، فيصف لي المدار، أحدثه عن «النورج»، فيحدثني عن «الرمية»، آخذه إلى «الشونة» فيأخذني لماكينة الطحين، أحكي له عن الفرن البلدي، فيذكرني بالمحمة!

أمضي في السرد، حريصًا على ألا أعرضه لأي تصدع، محاولاً بإخلاص أن أعبر من خلاله عن كل خلجات النفس، وأطر العقل، من عواطف وأحاسيس وأفكار، ولا أرتاح إلا بعد أن أتابع ردود الفعل، وأرد عليها بكل حماس!

بعد فترة، قال لي زميل قديم، انتبه! أنت تفقد قراءك الذين تابعوا جولاتك وحواراتك السياسية مع زعماء العالم وقادة التحرر الوطني في بلدان كثيرة! وقال أخي الأكبر: حاول الانفكاك من زمام القرية إلى أنحاء مختلفة، حتى لا يشعر متابعوك، أنك انكفأت على «الرملة»!

عدت لجان بول سارتر أنقل له ما قيل لي، وخلته بل وجدته يقول لي: في الحالة الأولى، لا تشغلنك مسألة الشهرة ومسألة الخلود والعالمية، وما إلى ذلك من أوصاف كبيرة! قل لهم أنا لا أتوجه إلى قارئ عالمي، بل إلى قارئ خاص، في وطن خاص، وفي موقف أو مشهد محدد! الحديث عن الديمقراطية في معناها التجريدي لم يعد يجدي، وكذا عن الحرية، لأنها لا تكتسب معناها الحق إلا في موقف معين، وهذا ما أفعله بشكل جمالي!

يضيف سارتر: يبدو ولأول وهلة، أنه لاشك في أن الكاتب إنما يكتب للقارئ من حيث هو فرد في العالم، وهكذا فإن مطلب الكاتب يتجه مبدئيًا إلى جميع الناس، ولكن الأوصاف السابقة أوصاف مثالية.. سيتحدث هذا عن الحرية، وذاك عن العدالة، وثالث عن الديمقراطية، هؤلاء كثيرون، ولكن الأجدى والأنفع أن يتحدث الكاتب إلى مواطنيه من بني جنسه ووطنه وطبقته.. إنهم أهل العصر الواحد بأجياله المختلفة والمتعاقبة.. أؤلئك الذين عاشوا وعايشوا نفس الأحداث.. لهم في حلوقهم مذاق خاص، وتجمعهم ذكريات ميلاد وموت واحدة!

هذا العالم المدهش هو الذي ينفث فيه الكاتب معاني الحياة والأمل، ينفذ فيه بحريته، فيندفع القارئ وينجذب نحوه!

وليس معنى أنني اقتصر أو أقصر قرائي على فئة معيَّنة، أنني لا أتوجه من خلال هؤلاء إلى كل الناس ممن ينطقون بالعربية، ولكني أتوجه لكل الناس من خلالهم.. من خلال عالمكم.. من خلالكم!

هكذا وجدتني اتجه إلى قيم جمالية موروثة، وإلى عالم بأكمله يشترك فيه الكاتب والقارئ، وهذا سر جمال تعليقات قرائي مقارنة بأي كاتب آخر!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store