Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريـف قـنديـل

الكاتب والرسام.. تأثير البيئة الواحدة

A A
لماذا يستهوي الحديث عن الرسم غالبية الأدباء، كما يستهوي التحدث عن الأدب غالبية الرسامين؟ لماذا يمضي الأمر بين الفريقين، وكأنه ليس في الواقع إلا فن واحد، لا فرق في التعبير عنه بلغة أو بأخرى من لغات الفن؟!

الإجابة البسيطة والسريعة تقول إن الطاقات الفنية كلها قد ترجع لنوع من الاستعداد الفطري، لا يختلف في أصله، وإنما تحدده فيما بعد، أحوال المرء، وتربيته، وثقافته، وصلته بعالمه.. ونضيف إلى ذلك، أن الفنون في بيئة واحدة وفي عصر واحد، قد تتبادل فيما بينها التأثير، وقد تؤثر فيها نفس العوامل الاجتماعية!

لكن وفي المقابل، فان التفرقة بين الأدب والرسم، ليست تفرقة في الشكل فحسب، بل في المادة أيضًا، فعمل أساسه الألوان، غير عمل مادته الكلمات، وعمل أداته القلم، غير عمل أداته الريشة!

والحق أن هذه المسألة لم تشغلني كثيرًا، خاصة في بداية تكويني الأدبي، فقد كان لي ومازال صديق حميم، هو المهندس علي هلال، إذا رسم كتبت، وإذا كتب رسمت، وكان شاعرًا ورسامًا ونحاتًا في آن واحد.

كبرنا وفرقتنا نوعية الدراسة ومكانها، فقد راح يدرس «الزراعة» في كلية الزراعة بشبين الكوم، ورحت أدرس الفلسفة في عين شمس، وكان ما كان وعملت بالصحافة، وانغمس هو في مشاكل الفلاحة، رغم أنه كان الأجدر بدراسة الفلسفة، وكنت الأجدر بدراسة الزراعة، لكنه حب الأدب، الذي استقيناه بل ورثناه من معلمينا الكبار الأربعة، وهم على الترتيب: محمد قنديل، وأحمد هلال، ومحمد عفيفي مطر، ومصطفى عبدالمجيد سليم، والذي ظل يربطنا ويجمعنا حتى بعد أن غادرت مصر إلى بريطانيا..

ثم كان ما كان، وتعرفت على الفنان الكبير الدكتور سامي البلشي، وكأنه جاء ليكمل حكاية علي معي! ورغم غزارة إنتاجه وتنوعه، كتابة ورسمًا ونحتًا، فقد مضيت أتابعه بفرح خاص، ولم أكن أدري أنه يتابعني كذلك!

كان كتابي الأخير «شواهد الجمال في دفتر الترحال» خلاصة رحلات صحفية، ونظرات فلسفية، ورصد لمشاهد جمالية، ومن ثم اخترت لمناقشته، صحفيًا بارعًا هو فراج إسماعيل، وأكاديمية قديرة هي الدكتورة رضا خلاف، وفنانًا تشكيليًا هو سامي البلشي، فيما تولى إدارة الندوة الإعلامي الكبير عبدالعظيم حماد.

كانت الندوة تمضي في هدوء، قبل أن ينفجر البلشي، مؤكدًا أن الكاتب «شاعر لا ناثر» وأن فصول الكتاب هي قصائد، وأن ساحة الشعر خسرت شاعرًا أخفته الصحافة!

كان البلشي، يبدو منفعلا، وكنت أستعين برد سارتر أحيانًا وهيدجر أخرى، مؤكدًا أن اللغة للشاعر مخلوق له كيانه المستقل، ولكنها للناثر مجال نشاطه، وامتداد لإحساسه، وأن الناثر يجلو عواطفه حين يعرضها، على عكس الشاعر، وكلام كبير من هذا القبيل، ولم يقتنع!

أخيرًا، ومع توالي إنتاجي الأدبي استسلم هو لواقعي واتفقنا على عدم الانشغال بتحديد نوع الكتابة شعرًا كان أم قصة قصيرة أم غيرهما، بحيث أنصرف لما أنا فيه، علني أقدم قالبًا أو فنًا جديدًا للصياغة، تاركًا للمتلقين الحكم!

ثم كان ما كان، وظهرت روائع د. سامي في «الأبيض والأسود» عندها تذكرت مقولة الدكتور عبدالغفار مكاوي في تحفته الأدبية «قصيدة وصورة»: هل جربت أن تقف أمام رسمة فتحس كأنها تحدثك بلسان شاعر، أو تسكب في أذنيك الأنغام والألحان؟ والحاصل أنني وجدت ما هو أكثر وأصدق من ذلك بكثير.. رأيت رسومات سامي تتحدث بلساني، بل وتردد أنغامي وألحاني!

ومع احترامي للكاتب الأمريكي عزرا باوند من أن العمل الفني المثمر حقًا، هو ذلك الذي يحتاج تفسيره إلى مائة عمل من جنس أدبي آخر، أقول إن ما بيني وبين د. سامي «بالأبيض والأسود» مسافة لحظة أو خطوة واحدة.. إغفاءة على كنبة، أو «سندة» على زير، أو جلسة على «دكة» نورج، أو ندهة على بقرة تجر محراثًا أو ساقية!

أدرك أن التأثير المتبادل بين فن الكتابة وفن الرسم قديم ويعود لآلاف السنين، لكن قصة اندماجي أو استغراقي مع الدكتور سامي البلشي، تقدم للدارسين والمتلقين نظريات جديدة عن الاشتراك الفطري في إيقاع السرد، وبناء القصة، وتصوير الكلمة، وموسيقى اللوحة!

يرسل لي، لوحة، ويسألني ماذا كتبت، وفور أن أرسل له يصرخ من جديد، من فرط الدهشة مطالبًا بالمزيد! لقد اكتشفنا، أن ما بيننا امتداد لا ابتداء!

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store