Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محسن علي السهيمي

لبنان.. قشرة الحداثة

A A
كثيرًا ما كانت تُلفت نظري كلمتان متلازمتان مدونتان على أغلفة أغلب الكتب التي تحتويها مكتبة المدرسة، أو تلك التي تقع عرَضًا أمام ناظريَّ. هاتان الكلمتان هما (بيروت-لبنان)، وهما تشيران إلى أن الكتاب طُبع في بيروت عاصمة لبنان، وهو ما يؤكد المقولة الدارجة (القاهرة تؤلف وبيروت تطبع وبغداد تقرأ)، ويمكننا اليوم أن نضيف للمقولة السابقة (والرياض تَعرض وتقرأ). لبنان أو كما كان يحلو للبعض أن يلقِّبها بسويسرا الشرق لم تعد لبنان الخمسينيات حتى منتصف السبعينيات، لبنان الفكر والثقافة والفن ودور النشر والسياحة والانفتاح والتسامح. لبنان التي كانت تَقبل الجميع دون تصنيف ولا تعنيف أصبحت اليوم تضيق بأهلها قبل زوَّارها، لبنان الفاتنة الجاذبة أصبحت متوحشة وطاردة، لبنان التي كانت ترفع رايات التسامح أصبحت تعلوها رايات الطائفية والحزبية والتشرذم والإقصاء. لبنان فقدت هويتها منذ أن تحاصصتها ثلاثية (المسيحية والسنة والشيعة)، وهذه المحاصصة ليست من (التعددية) المندوب إليها في شيء؛ وإنما تعني -والحال هذه- الفرقة والنزاع، ومما زاد طينةَ المحاصصةِ الثلاثيةِ بلةً نشوء حزب أيديولوجي، طائفي التوجه إقصائي المنهج، وسيطرته على زمام الأمور في بيروت خاصة ولبنان عامة. وشيئًا فشيئًا أصبحت صورة لبنان (الثقافة والفكر والفن والنشر والتسامح) تحل محلها صورة لبنان في هيئتها الكالحة المتوحشة، وهي تلبس لبوسًا أحادي اللون، طائفي التوجه، قد انتزع لبنانَ من هويتها العربية لتعلو مؤسساتِها الرسميةَ وغيرها شعاراتٌ ترتسم عليها البندقية، ورائحة الموت، ونغمة الحزبية، ومسمى (حزب الله) الذي (تمسكن) تحت ذريعة (المقاومة) ضد العدو الإسرائيلي، حتى (تمكَّن) فأصبح السيد الذي تصدر لبنان عن رأيه وتأتمر بأمره بإملاء من الولي الفقيه الفارسي في إيران. وهكذا تحولت لبنان من واحة عربية، إلى مغارة فارسية تُحشد فيها ألوان التوحش، السلاح والعنف والطائفية والإقصاء، وهي بهذا تخرج من محيطها العربي، وتخسر كثيرًا مما كانت تحصِّله من دول الخليج العربية التي كانت تهبّ في كل نائبة تتعرض لها سواء من قِبل إسرائيل أو من قبل الأحزاب المتصارعة أو لأي سبب كان، ومع هذا نرى لبنان -بما في ذلك الحكومة- وقد تنكرت -قولاً وفعلاً اجتماعيًّا وسياسيًّا- لما كان من الخليج معها، ومدت يد الطاعة والولاء والشكر لإيران، ولا أظن الخليجيين بعد اليوم -على المستوى السياسي خاصة- إلا مباركِين للبنان خطوتها هذه، مغلقين صنابير النخوة والحميَّة ملتفتين لشعوبهم التي هي رهانهم الأول، وهي الأَولى بتوجيه تلك الصنابير إليها. لعل السؤال الماكر الذي يطرح نفسه: مادام أن لبنان كانت بتلك الصورة الحداثية الفاقعة (ثقافيًّا ومعرفيًّا وفكريًّا..)، فأين هي قِيَم الحداثة من واقعها الفوضوي اليوم؟ يأتي الناقد محمد العباس في أمسيته الافتراضية مع الجمعية العُمانية للكُتاب والأدباء ليجيب بأننا نحن الخليجيين «كنا نتصور أن لبنان أكثر حداثة منا، أكثر حبًّا لأوطانهم منا، أكثر تألقًا على مستوى إنتاج الفكر وتنظيم حياتهم الاجتماعية، وتبين أن المجتمع اللبناني يعيش تحت ظل قشرة حداثية». هذا يعني أنه ليس في كل حداثة مناعةٌ؛ إذ إن حداثة لبنان التي عاشتها وسبقت غيرها إليها لم تكن بالحداثة الصلبة الأصيلة التي ترسخ في ذهنيات اللبنانيين وتُعزز قِيم المدنية وتكسبهم وعيًا ومناعة ضد أي اختراق أيديولوجي تنشأ عنه الطائفية أو الحزبية وبالتالي (الفوضوية) التي تَغرق لبنان اليوم فيها.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store