Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريـف قـنديـل

{إخلاء طرف» على الورق فقط!

A A
هل جربت أن تستخرج أو يستخرجوا لك إخلاء طرف من مكان أحببته وأحبك؟! وماذا يعني لك هذا المصطلح؟!

الذي حدث أنني فوجئت بصوت تلميذتي «ندى» تقول لي: ها قد استخرجت لك إخلاء الطرف من جريدة «الجمهورية»!.

كان الإخلاء المطلوب لنقابة الصحفيين يعطل إجراءات عديدة، ومن ثم فقد سعيت للحصول عليه في مرات كثيرة قبل رحيلي من مصر، وفشلت في ذلك، قبل أن تبشرني «ندى» بالحصول عليه!.

والحق أنني انتابني شعور بالشجن، الذي قد يشبه في حالتي الحزن والألم، حيث أدخلني «إخلاء الطرف» في ذكريات أو نوبات أو صدمات الرحيل التي مررت بها في مشواري الطويل!.

كان مبنى الجريدة الجديد في شارع رمسيس بالقاهرة، يسألني عندما مررت به في طريق عودتي للتجمع الخامس من زيارة لبيت أخي في الزمالك: كيف ستترك هذا المكان الجميل؟!.

ومن ثم فقد عدت بذاكرتي سريعاً للمبنى القديم المطل على شارع زكريا أحمد، حيث لاشيء غير رماد الذكريات، وشرفة للغيوم، كان يحلو لي الجلوس فيها حين كان الطموح يقيناً!.

مضيت قليلاً حيث لاحت لي «محطة مصر»، وحيث كان قلبي يفيض شجناً، وأنا أحملق في شبابيك وأبواب، مسترجعاً تلك العيون التي كان يعتريها القلق!.

ولأن المحطة الأثيرة، تعني في الجزء الآخر منها، رحلة العودة الى «الرملة»، ولأنني لم أعد أسافر أو أعود عبر أرصفتها فقد صرخت: يا رصيف الحياة الفسيح، لا أريد إخلاء طرف، خفف عني هذا الشعور المباغت الكثيف.. امنحني فرصة لالتقاط أنفاسي كي أستريح!.

كدت أصيح وأنا أناشده أن يزيح عن طريقي هذا الكم الهائل من حجارة الخريف، وأن يملأ نفسي من جديد بالورود وبالنور والمصابيح!.

قال الرصيف في لحظة تأمل ومراجعة: ألم ترَ كيف تسرب منك وعنك رفاقك الأولون؟! كيف لي أن أعيد لك نجوم مشوارك المحبب القديم؟!.

قلت: رفقاً، رفقاً ففي قلبي تترسخ مشاعر وجد وحب مستديم! مهلاً، مهلاً! فلا سراب ولا عتاب ولا عذاب، وإنما هي نقاوة الفضاء، ووحده الله يدري حقيقة ما بالفؤاد!

كنت أحدث نفسي طوال مشواري، وفي المنتصف اكتشفت أنني أرفض استلام إخلاء الطرف!.

كان الضوء.. ضوء القمر في لون الحليب الرائق.. ملموس أو مغموس بلون جدران بيتنا العتيق، فيما جلست «.....» أمام الفرن البلدي، وأنا محاط بجعدات الأسقف المعروقة بالخشب القديم، قبل أن أقفز لأجلس على حافة الفرن!.

كان الصغار يبتهجون لرؤية الرغيف وأكواز الذرة، وكنت أبحث عن رائحة الخميرة، حين كان الفرح يحتل الصدارة، وحيث تدخل صواني «الأرز المعمر» بعد «الخبزة الأخيرة»!

انتهى مهرجان الخبيز، وأنا متمسك برفض إخلاء الطرف، ومن ثم فقد جلست على طرف سور البيت، تماماً مثلما كنا نفعل وإخوتي كل صباح!.

أتذكر منضدة صغيرة، تغطيها جرائد الصباح، فيما يعلو همس أخي المستلقي على حصيرة، والذي اتفق مع أمي، على أن يكون الافطار من أسماك منيرة!.

يا الله! هذه بقايا من صفحات الجرائد الأخيرة، وعليها مخلفات الطيور وبقايا من ريش اليمام والعصافير، حيث يستعد الزمالك لمواجهة الأهلي، وحيث وصل الزعيم الضيف ومعه قرينته، وحيث يتهم عبد الحليم حافظ بعض الجماهير بمحاولة إفساد حفل شم النسيم، فيما وردة الجزائرية ترد وتنفي!.

أخيرا، وعندما بدأ الباب في الانغلاق، لم تكن أمي هناك، وكان الضوء المنبعث من الداخل آخذاً في الخفوت.. لحظات من السكوت.. تسقط دمعة كثيفة في لحظة تأمل صافية، وفيما كانت عيني ترف، كنت أرفض بشدة فكرة إخلاء الطرف!.

في اليوم التالي، كنت أحن الى سور الحديقة عند الأصيل، فاندفعت وشقيقتي نرصد ما جادت به الأرض، وما سقط من فوق النخيل.. وفي المساء، رحت أرصد أثر الورد على خد الليل، تنتابني لوعة إخلاء الطرف، وفكرة الرحيل!

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store