Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريـف قـنديـل

دعني أيها الحارس الأسباني.. إنه قصر أجدادي!

A A
في زحمة التهافت على الإساءة للفتوحات الإسلامية، ووصم ووصف الفاتحين الأوائل بالإرهاب والهمجية، عادت بي الذاكرة الى زيارتي المحببة الى بلاد الأندلس.. إلى غرناطة، وقرطبة، وإشبيلية!

كنت قد غادرت لندن إلى مدريد، حيث أوصاني بعض الزملاء بشراء الملابس الرياضية، وأوصاني آخرون بزيارة نادي برشلونة، وكنت في وادٍ آخر!.

نسيت تماماً أنني مسافر لأسبانيا الجمال والسياحة!، وحين كنت أمرُّ بميدان «الطرف الأغر» في لندن، في طريقي لمطار هيثرو، سألني السائق المغربي، بالعربية الفصحى وعلى سبيل النكتة: «إلى أين أيها العربي»؟ فقلت: إلى بلاد الأندلس، وضحكنا من القلب؟!.

قال لي السائق: رحلة ممتعة ستستغرق ساعتين أو نحو ذلك، قلت بل تستغرق قروناً طويلة، فبيننا وبين الأندلس تاريخياً ما يقرب من أحد عشر قرناً، وعدنا للضحك من جديد!.

وصلت مطار مدريد متدثراً بعباءة التاريخ، ومستحضراً أمجاد الأجداد العظماء، وممتلئاً بالثقة والكبرياء!.

سألني السائق الأسباني عن وجهتي فقلت: «غرناطة»، ورغم أنه سمعها وفهمها بوضوح، فقد عاد ليصححها «جرانادا.. جرانادا»! وانطلقنا!.

في الطريق كان عبق الأجداد الفاتحين يملؤني تماماً، وكأنه بالفعل قادم من خلف تلك الجبال الخضراء، حيث تفوح روائح الحضارة الإنسانية.

وفيما كنت مستغرقاً في تأمل عظمة العمارة الإسلامية، التي بدأت تتحدث عن نفسها كلما اقتربنا، قطع السائق الأسباني ما يحسبه صمتاً، وراح يتحدث بإنجليزية ضعيفة مثل إنجليزيتي في ذلك الوقت، غير أنني فهمت، بل أصابني الحنق، وهو يتحدث عن المذابح التي جرت هنا في تلك النقاط التي نمر بها للغزاة المسلمين!.

وكلما اقتربنا أكثر، راح يكرر مصطلحات الذبح والحرق والترويع التي مارسها أجداده ضد «الموريسكيين»!.

كان «فرناندو» هو القاسم المشترك في كل جملة فهمتها، حيث اقترن ذكر اسمه طوال الوقت بالحديث عن الدم!.

وحين وصل حكي السائق، الى «شارل الخامس» صرخت في وجهه: أنا عربي مسلم، فاعتذر!.

وصلت الى «غرناطة» مثخناً بالجراح التي نكأها السائق المتعصب، وحين عرض تقديم خدماته الفندقية، رفضت تماماً، ومن ثم أنزلني في حي قريب من «قصر الحمراء»!.

في الصباح وفي محاولة يائسة لمحو كلمات السائق المتعصب، خرجت من الفندق حاملاً كاميرا صغيرة، وجهاز تسجيل صغيراً، ووريقات من مطبوعات الفندق، وانطلقت صوب القصر!.

على الباب، ومنذ اللحظة الأولى دخلت في مناقشة حامية مع رجل الأمن، كنت البادئ فيها برفع الصوت، وكأنني أرد على السائق الذي أوصلني مساءً!.

وتبعاً لذلك، فقد تدخل ثلاثة حراس آخرون، وهم يطلبون مني تسليم الكاميرا، وأنا أتحدث أو أهذي بالعربية: كيف تمنعونني وأنا في قصر أجدادي؟!.

كنت طوال وقت المناقشة أتوقع أن يأتي الدعم من الداخل، قبل أن ألمح رجلاً عربياً يتقدم نحوي ضاحكا ومهدئاً من روعي ومتحدثاً بطلاقة مع رجال الأمن الذين قبلوا الوساطة وسمحوا لنا بالدخول!.

وقبل أن أشرح للرجل ما كان مني، وما كان منهم، قال ضاحكاً: يبدو أنك كنت تعتقد أن أحفاد عبد الله الأحمر مازالوا في الداخل، وسيخرجون لاصطحابك!.

دلفنا الى القصر من الداخل، حيث أنستني روعة العمارة الإسلامية وجمال زخارفها ونمنماتها الرقيقة وأشكالها البديعة كل ما دار بيني وبين السائق في رحلة الوصول، وكذا بيني وبين الحراس الذين كانوا ينوون منعي من الدخول!

أي عقل إنساني هذا الذي قدم للانسانية كلها هذا الجمال؟، أي عبقرية هندسية تلك التي جعلت كل شيء في القصر غاية في التناسق بدءاً من الأسقف حتى الرخام الملون، مروراً بالجدران؟!.

هنا فناء الريحان الكبير حيث بِرْكة المياه الجميلة، وحيث نقشت في إحدى الزوايا عبارة «النصر والتمكين والفتح المبين لمولانا أبي عبد الله أمير المؤمنين»، وهنا بهو الشعراء، وبالقرب منه قاعة الأختين، وهناك قاعة الملوك، ومتزين الملكة، وهنا الساقية أكبر نوافير القصر!.

في اليوم التالي قررت السفر صباحاً الى «مالقة» حيث عرج بي سائق عربي الأصل الى «لوخا» بلد لسان الدين ابن الخطيب، الملقب بذي الوزارتين «الأدب والسيف».. إنه العلامة الأندلسي الذي ملأ الدنيا شعراً وفقهاً وفلسفة وطباً، ونقشت أشعاره على حوائط قصر الحمراء!.

بالمناسبة لي صديق شاعر تأثر كثيراً بابن الخطيب وابن زيدون وأراه الآن بلا مناسبة ينضم لكتيبة المهاجمين الشتامين للفاتحين المسلمين!.

وصلت إلى «مالقة» التي تزينها قلعة جبل المنارة والتي بناها الخليفة عبد الرحمن الثالث، وحيث بت ليلتي في أجمل مدن العالم.. مدينة القلاع والحصون، التي اكتمل فيها البناء السياسي والاقتصادي للدولة الإسلامية في الأندلس، وحيث بلغت قمة الازدهار الحضاري العالمي في عصر النصريين!.

استرجعت نصيحة العلامة الراحل الدكتور حسين مؤنس، وأنا أتابع يومياً هذا الكم الهائل من التجني والإسفاف.. «قل للأوروبي الذي يفكر أن يفخر عليك بما تعلمناه منه في العصر الحديث يخفض من صوته، عندما تأتي سيرة أساتذتنا الفاتحين الذين علَّموا أجداده في جامعات أوربا كلها.. قل له إن الفاتيكان نفسه لا ينسى أن أحد باباواته من تلاميذ قرطبة وشيوخها الأجلاء»!

قلت عفواً أستاذي!، المشكلة الآن ليست في «الأوربي»، وإنما في «العربي» الذي يحلو له الآن الهجوم على الفتوحات الإسلامية باعتبارها همجية»!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store