Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
طارق علي فدعق

فراخــــــــــــة (2)

A A
أعتقد أنني لو كتبت مائة مقال عن الفراخة فلن أوفي الموضوع حقه من الاهتمام، ولذا فإليكم المقال الثاني في هذا الشأن: المقصود بالكلمة هو ممارسة الأساليب المختلفة الذكية بما فيها الحيل للوصول إلى هدف ما. وتمارس على مستويات عديدة قد نراها في الوزغة أعزكم الله التي تغير لونها وترمي ذيلها للتمويه، وفي الغربان التي تختبئ بداخل أوراق الشجر، وحتى في عائلة فيروسات الكورونا التي تعدل تركيبتها الوراثية للتصدى لأجهزة المناعة في أجسام ضحاياها. ولكن الفراخة تستوقفنا وقفة كبيرة عندما تمارس من دول بأكملها، ومن أسماء تاريخية لامعة مرموقة.. الدولة المعنية هنا هي إنجلترا، والزمان هو نهاية القرن السابع عشر، وأحد أبطال القصة هو إسحق نيوتن.. بذاته، وهو أشهر عالم في تاريخ البشرية، فتنسب إليه أشهر الاكتشافات العلمية ومنها قوانين الحركة والجاذبية في كل مكان، وعلم التفاضل والتكامل في الرياضيات، ونظرية الألوان، وعشرات النظريات في الفيزياء والرياضيات. ومعظم تلك الاكتشافات المذهلة جاءت في سنة وباء الطاعون الأسود في إنجلترا، وكان ذلك تحديداً عام 1666 عندما أغلقت الجامعات أبوابها وذهب الشاب نيوتن في منزل أهله في شمال إنجلترا ليتأمل، ويبتكر، ويذهل العالم. وبعد تقديم تلك الإنجازات واجه أحد المواقف التي تواجه الأساتذة الجامعيين عبر التاريخ وهو الراتب المتواضع. بالرغم أنه كان على رأس الأساتذة البارزين في جامعة كامبريدج الراقية. في ذلك الزمان كانت إنجلترا عاشقة للحروب مثل «فتوات» الأحياء، كان لديها أحد أغرب أنواع الشغف بالصراعات المسلحة في أوربا في البر والبحر، وعلى سبيل المثال خاضت حربين في نفس الوقت تقريباً الأولى ضد فرنسا، والثانية ضد إسبانيا. وطبعاً كل هذا بحسابه، فلم تكفِ الموارد المالية الحكومية لتغطية حسابات الحروب وتسربت ثروة العملات النفيسة، فلجأوا الى تعيين إسحق نيوتن ليتولى منصب رئيس سك العملات. وكان ذلك من المناصب المهمة جداً ويعادل مناصب وزير المالية وأمين خزانة الدولة في أهميته. يعني الرجل ترك الفيزياء والرياضيات وركز على «القرنقش»، يعني الفلوس. وفي تلك الأيام كانت أغلبها من الفضة. وكان الغش سائداً، والتهريب بين البلدان أيضاً بسبب تفاوت قيمة المعادن. وحرص نيوتن على تصحيح تلك الأوضاع ولكن التحدي الكبير كان في كيفية تغطية العجز الكبير في الميزانية بسبب الحروب المختلفة المستمرة. وكانت التقديرات أن الدولة بحاجة إلى مئات السنين لتغطية العجز، علما بأن الحروب كانت لا تزال دائرة، وأن الحكومة أصدرت الأشكال والألوان من أدوات الدين لتغطية مصاريفها، من سندات حكومية، وشهادات ملكية، بل وحتى أوجدت أنظمة يناصيب حكومية، وجمعت الدولة أبرز العقول الإبداعية لجمع المال العام، ولكن كلها لم تكفِ إلى أن وجدت فكرة «جهنمية» ألا وهي تأسيس شركة خاصة يمكن لملاك أسهمها أن يستبدلوا دين الحكومة بالأسهم فيها. وفعلاً تم تأسيس شركة خاصة باسم «شركة البحر الجنوبي» أي «ساوث سي كومباني». وعملت في التجارة والنقل البحري بين أوربا وأمريكا الوسطى والجنوبية في نقل البضائع والعبيد، نعم العبيد من أفريقيا ذهاباً، وخيرات أمريكا من معادن ونباتات وسكر إياباً. والغريب هنا هي أن الموانئ المعنية في القارة الأمريكية الوسطى والجنوبية، بل وجميع الأراضي فيها كانت تحت سيطرة المملكة الإسبانية، التي كانت في حالة حرب مع إنجلترا، ونشأت عن ذلك «خبيصة» في استقبال السفن الإنجليزية. الشاهد أن الخطة المالية نجحت مبدئياً فتم تسويق الشركة بنجاح وارتفعت أسعار أسهمها بطرق عجيبة فتحققت ثروات ضخمة جداً في ذلك «التوريق» ثم انفجرت الفقاعة وهوت أسعار الأسهم بطريقة رهيبة تسببت في إفلاس العديد من الشركات والمستثمرين الكبار والصغار.

أمنيـــــــة

يا ترى ما الذي ينطبخ عالمياً اليوم خلال أزمة جائحة الكورونا؟ أتمنى أن لا تكون الفراخة المالية آلية لتمويل برامج بعض الدول التي لا تملك الاحتياطيات المالية الكافية. العالم في غنى عنها والله يقينا شرورها، وهو من وراء القصد.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store