Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريـف قـنديـل

هذه رحلتي.. عبرات في لندن ونظرات في الرملة!

A A
لم أذهب إلى لندن بوجه كوجه العذراء ليلة عرسها، ولم أعد بوجه كالصحراء الملساء تحت الليلة الماطرة!. صحيح أنني ذهبت بقلب نقي طاهر، يأنس بالعفو، ويستريح الى العذر، لكنني لم أعد بقلب ملفف مدخول «والقلب المدخول، كما يقول مصطفى لطفي المنفلوطي في «العبرات» هو القلب الذي داخلته أمور غريبة عن بيئته ومحيطه»!.

وكنت قد غادرت القاهرة حيث مقر عملي بجريدة «الجمهورية» الى عاصمة الضباب وعمري لم يتجاوز السادسة والعشرين، حيث استقبلتني مدام «نيلي» المصرية، وسلمتني للكاتب الدكتور عادل درويش، الذي سلمني بدوره لمدام «بريسكوت» اليونانية الأصل والإنجليزية الجنسية!.

ومن الواضح أن الدكتور درويش انتقى لي بيت «بريسكوت» للسكنى في حي ملبورن، رغم بعده عن «فليت ستريت» حيث مقر جريدتى «الشرق الأوسط» و «المسلمون» ومجلة «سيدتي» لأسباب اكتشفتها فيما بعد!، حيث تستيقظ مسز بريسكوت مبكراً، وتصيح في وجه من تراه من الطلبة والطالبات المتكاسلين عن الذهاب لجامعاتهم!.

كان الدكتور عادل، قد حذرني من الإفصاح مؤقتاً عن حقيقة عملي كصحفي، قبل أن يصدر تصريح العمل «الورك برمد»، ومن ثم فأنا طالب ماجستير في جامعة أكسفورد، وهذا يكفي لأن تلتمس لي مسز بريسكوت العذر في التأخر قليلاً عن مواعيد محاضرات الطلبة!

ولأنني سافرت بالفعل، كما يقول المنفلوطي «بنفس غضة خاشعة، ترى كل نفس فوقها»، فقد التزمت الاتزان والوقار والحكمة في كل تصرف صغير أو كبير، ومن ثم فقد عينتني «بريسكوت» مساعداً لها، خاصة إذا سافرت مع زوجها وابنتيها الجميلتين إلى خارج لندن! وعندما تعود تسألني أمامهم وأمامهن: من تغيب، ومن تخلفتْ؟ ومن دخل ثملاً، ومن علا صوتها في «الويك إند».. وكنت أجيب بصدق وصراحة متناهية، أوغلت صدر «سايكس» اليوناني الذي صار صديقي المقرب فيما بعد!.

ربما كانت الملاحظة الوحيدة التي سجلتها مس بريسكوت عليّ هي أنني أشتري ملابس وعطوراً كثيرة، فيما يعاني أبي في إرسال مصاريف الدراسة لي! وهو الأمر الذي أصبح فيما بعد، وبعد أن عرفت حقيقة عملي، مثاراً للعتاب والضحك!.

ثم كان ما كان، وصدر تصريح العمل، ولأن استلامه يقتضي أن أكون خارج حدود بريطانيا كلها، فقد اتفقت مع رؤسائي على الذهاب الى مصر، واستلام التصريح، واصطحاب عروستي معي، حيث يمكنني إتمام أمور الزواج في أسبوع والعودة في الأسبوع التالي، وقد حدث!.

كانت كلمات المنفلوطي ترنُّ في أذني عن صديقه، الذي ذهب الى أوروبا، وما على وجه الأرض أحب إليه من دينه ووطنه، وعاد وما على وجهها أصغر في عينيه منهما!، ومن ثم فقد التزمت في ذهابي وعودتي بوصفه الجميل عن مكانة الوطن والدين!.

والذي حدث أنني كنت في منتصف السلم الكهربائي صاعداً الى محطة «بيكاديلي»، حين كان زميلي المصري ينزل بأولاده، من السلّم المجاور، ولأننا في يوم وقفة عرفات، فقد حرصت على تحيته وتهنئتهم بالعيد، فإذا به، يسألني قائلاً: «ياسلام.. هوه انتوا كنتم صايمين في رمضان؟»، مضيفاً بصوت مسموع «رمضان كريم كل عام وأنتم بخير.. هابي عيد»!.

في منزلي بوود جرين، حرصت على إحياء حفل «سبوع» لابني وحين جاء الزملاء بعائلاتهم، كان الأطفال يرددون الأهازيج وراء العزيزة «هالة» ابنة استاذي الراحل «د. صلاح قبضايا»، حيث «اسمع كلام أمك.. اسمع كلام أبوك» وحيث القنديل الجديد في الغربال، وهو عنوان المقال البديع الذي كتبه أستاذنا سعيد إسماعيل في الصفحة الأخيرة بجريدة الأخبار..وكانت الزميلة الرائعة الراحلة فوزية سلامة رئيسة تحرير «سيدتي» تؤذن في أذن المولود مرة ثانية. وحين جاء الزميل أسعد عاشور بالسكين لتقطيع الخروف، انطلقت صرخة مفاجئة من طفلة في التاسعة ظنت أنه يتوجه بالسكين نحو المولود الصغير!.

في ركن بعيد من الصالون، وفيما كان الزميل م. متولى فضل، يتولى تصوير المناسبة بالكاميرا وبالفيديو، راحت زوجته الإنجليزية البوسنية الأصل تشرح لأولادها فكرة الاحتفال، بعد أن أحدثت صرخة الطفلة شيئاً من القلق!.

لمحت دمعة تسقط من عين زميلي الفلسطيني المهذب، وهو يربت على كتف ابنته الجميلة، فيما انهمك ابنه باللعب مع الأطفال.. كانت الأم الإنجليزية، قد رفضت العيش وطريقة التربية!.

وسط هذه الحالات والأجواء المتباينة، ومع كثرة ما أسمعه من قصص عن بيوت تهدمت، وأطفال تيتّمت رغم وجود الأب والأم، كنت قد أخذت قراري بالعودة!

وفي أول فرصة للانتقال من لندن إلى جدة، سارعت بالموافقة، حيث عملت بجريدة «الاقتصادية» ثم جريدة «الوطن» قبل أن استقر في «المدينة» أحبِّهم الى قلبي.

الآن وبعد مرور هذه الأعوام، ومع صعوبة الحياة في مصر وسائر الأوطان العربية، بأشكال متفاوتة، ومع عشقي الخاص للنيل والليل وللقرية وللقاهرة، وحبي الفطري الأشد لمكة وجدة، أسأل نفسي بين الحين والآخر، هل ظلمت أولادي حين اتخذت القرار بمغادرة لندن؟!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store