Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريـف قـنديـل

ويا إنسان!.. هل رأيت دموع النبات وسمعت بكاء الحيوان؟!

A A
لم أكن بحاجة إلى نظريات علمية أو أبحاث بيولوجية أو دراسات سيكولوجية لكي أدرك مبكراً أن النبات يتألم ويدمع ويجف عند فراق زُرَّاعه ورعاته، وأن بعض الحيوانات خاصة الكلاب والجِمال تبكي حزناً وألماً عند رحيلهم!

وقبل أن أتعرف على ظاهرة الإدماع (Guttation) في عالم النبات الزهري، والفرق بين ماء الإدماع، وتلك الدموع النقية ذات الماء العذب والتي تسمى «ماء النتح»، رأيت تكعيبة العنب الخاصة بجارنا تجف رويداً رويداً عقب رحيله، ورأيت حقول وعيدان وكيزان الذرة تعلوها الصفرة، في الزرعة التالية لممات صاحبها.

شيئاً فشيئاً استقر في وجداني أن الجفاف والصفرة ليسا نتاج إهمال بعد وفاة الفلاح، بقدر ما هو الحزن يعبر عن نفسه في النبات بشكل أو بآخر!.

أتذكر جيداً عندما مات صهري العزيز «الحاج غريب»، كيف فوجئ الأهل بعدها بأيام بالنخلة تنخلع من جذرها الضارب في عمق الزمان، وتميل لتسقط على غرفته!، يومها قال الجيران إن النخلة سقطت من فرط اللوعة على فراق العمدة!.

في ضوء ذلك، فرحت فرحاً خاصاً عندما قرأت أن باحثين من جامعتي بون وفلورنسا، تمكنوا من اكتشاف ما يمكن وصفه بالدماغ النباتي في تركيبة جذر نبات الذرة، حيث يؤكد الباحث فرانتيسك بالوسكا من جامعة بون أنهم تمكنوا من اكتشاف أنشطة كهربائية في جذور النبات، كما وجدوا أن التركيبة البيولوجية للخلايا شبيهة بتركيبة الدماغ الحيواني. لكنه أشار إلى أن تلك الأبحاث مازالت في بدايتها، ما يجعله من المبكر الحديث عن «دماغ نباتي»، وأضاف أنهم يطلقون الآن على ما اكتشفوه لدى النباتات اسم: «مركز التحكم».

ثم قرأت للعالم الدكتور نصرالله محمد دراز الباحث الشهير في المركز القومى للبحوث بمصر أن الحياة تدمع، ولن تكون دموعها إلا فى وجود الكائن الحى. صدى دموع تخترق نسيج الحياة تذرفها أعضاء الكائن الحى لنستبين منها قدرة الله فى مخلوقاته. دموع مادية تراها بعينك وأخرى معنوية قد تستشعرها بوجدانك.

كان الدكتور دراز يشرح وكنت أحلق بذاكرتي لمشاهد سجلتها طفلاً وشاباً عن فراق الإنسان للإنسان، وفراق الحيوان للحيوان، فضلاً عن فراقهما لبعضهما.. الإنسان والحيوان!.

دموع ترقرقت فى عين الإنسان أو الحيوان وأخرى اكتست وتحلت بها النباتات. ودموع أخرى لا تراها بعينك المجردة ولكنها غرست سهامها فى مركز قلب الكائن الحى، إنها دموع القلب.

يبكى القلب ويذرف دموعاً من نار غير مرئية تحرق الكيان، وتضفى الحزن على بريق العيون التى تذرف دموعاً مرئية ملتهبة، تشق مجرى لها فوق صحراء الوجه الحزين.

هكذا أعادني الدكتور دراز إلى ذكرياتي مع عمي «حسن هلال» الذي كان يشبه في هيئته»أبو الهول»، ذلك الفرعون المصري القديم.. الرأس والأنف والفك والعينان، فضلاً عن جسده الضخم الذي يداريه قليلاً طوله الفارع.

يمتطي عمي حسن حمارته البيضاء فيتقوس ظهرها تماماً حتى يستطيع الركوب. وكنا نتعجب ونشفق على تلك الحمارة التي تنتشي وتصدر حركات ترحيب. وحين مات، وفيما كنا نظن أنها ارتاحت من هذا الحمل الثقيل، ماتت بعدها بأيام!.

لقد تأثرت كذلك في الحقيقة بروايات الشاعر فتحي سليمان وهو ينشد بصوته العذب في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، متحدثاً عن الجَمل الذي اشتكى وبكى، وعن الشجر الذي سلم، وعن الجذع الذي انتحب حباً وشوقاً للمصطفى.

أخيراً وفي محاولة يائسة لكف كلبتنا «فيكي» عن البكاء الذي لم تنقطع عنه يوماً منذ مات صديقها «بوتشي» جلستُ أمامها في حديقة المنزل، لمؤانستها ومواساتها، من جهة، ورؤية الربيع الطلق يختال ضاحكاً، كما وعدنا البحتري، من جهة ثانية، وفيما جهزت نفسي لكتابة هذا المقال وقعت عيني على دراسة للدكتور مارك بيكوف -عالِم البيئة وعالِم دراسة سلوك الحيوان من جامعة كولورادو بولدر- يؤكد فيها أن الكثير من الحيوانات تشعر «بالحب» مثلما تشعر «بالحزن»!، فإن قلتَ إن هذه المفاهيم من الصعب تعريفها بدقة، سأقولُ لك إننا نحن البشر لا نفهم تمامًا معنى الحب، ولكننا لا ننكر وجوده، أو قدرته على تشكيل الاستجابات العاطفية.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store