Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريـف قـنديـل

والأماكن أيضاً تحس وتفرح وتبكي.. وتشتاق!

A A
كنا قد تناولنا في الحديث السابق كيف يدمع النبات، ويبكي الحيوان على فراق الأحبة، فماذا عن الجماد الذي هو هنا المكان؟، هل تبكي البيوت مثلاً على رحيل الآباء والأمهات؟، وماذا عن المحطات والغيطان؟!، هل تضيق مثلاً بسبب فقدان إنسان؟!.

بحثت في جذع الفعل ضاقَ.. ضاقَ بـ.. ضاقَ على.. ضاقَ عن، وهكذا ضاق، يَضِيق، ضِقْ، ضَيْقًا وضِيقًا، فهو ضائق وضَيّق، والمفعول مَضيق به!، وكما قلوب البشر تضيق بالهموم، تضيق البيوت كلما كثر الراحلون!.

وضاق بالأمر: تألَّم وتضجَّر منه، لم يقدر عليه، عجز عنه، وضاق به ذرعًا أي ضاق صدرُه به!.

وهكذا أدركنا منذ أيام الطفولة الغضة، والصبا البكر، حين كان الصبي منا يمرق من دار الى أخرى نشوان كالمهر، أن الدُّور تشعر بالاختناق والضيق، من كثرة الرحيل، لا من كثرة الركض والزحام..

إنها بيوتنا التي علمتنا صغاراً المعنى الأصيل للفقدان الذي لم يجعلنا يوماً ندفن من فقدناهم في باطن النسيان.. فإذا ما دخلناها كباراً، وفور دخولنا تسابقنا في الحكي والسرد.. كان.. وكانت.. وكانوا .. وكان يا ما كان!.

كنت أبكي وحدي في حديقة منزل شقيقتي، دون أن أدري ما إذا كنت أحكي له عما ينقصني، أم أقص ما يفيض عني؟!، كان بيتها يبكي وهو يؤكد لي: ليس دمعي الذي بلَّلك أبداً، ولا قلبي الذي أوجعك!، لكني أعترف لك.. شجنك يهزني، وغيابها عنك وعني ينهكني!.

توجهت نحو حقلنا الذي لم أعرفه، مع تشابه الحقول المجاورة، لكنه نبهني برائحته وربما بندهته أيام الركض الذي كنته، إلى خصوصيته!، إنه يومئ لي.. امتحنني وامتحنته.. قلت دلني على كونك أنت!، هات أمارتك!، قال: غنِّ لي، مثلما كنت تغني، فعرفته!

راح يحكي لي عن أيامنا في فصول السنة!، عن صقيع طوبة وشمس برمهات، وعن رياح بشنس التي تكنس المحاصيل كنساً!، وعن هاتور والقمح الذهبي المنثور، قبل أن يشير الى ذكريات والدي.. هنا وقف.. وهنا قعد.. وهنا غفا.. وهنا قرأ وكتب، وهنا سجد.. فبكيت!.

عدت فقرأت في السيرة النبوية عن الثلاثة الذين ضاقت بهم الأرض بما رحبت، وكأنها أحست بفعلتهم، تأملت ذلك الربط المدهش بين ضيق الأرض والتقاعس في الدفاع عن الحق.

وفي الشعر العربي ربط جميل بين فراق الدار وفراق الحبيبة، تجده عند طرفة بن العبد وهو يتحدث في برقة ثهمد عن الأطلال وموكب الارتحال والحبيبة، قائلاً: لخَولةَ أطلالُ ببُرقَةِ ثَهْمَدِ، تلُوحُ كباقي الوشمِ في ظاهرِ اليَدِ.. وُقُوفاً بها صَحبِي علَيَّ مَطِيَّهُم، يقولُون لا تَهْلَك أسَى وتَجَّلدِ.

وقيل إنّ خولة امرأة من بني كلب والأطلال واحدها طَلَل وهو ما شَخُص من آثار الدار، وثهمد اسم موضع، والبُرقَة والأبرق والبرقاء كل رابية فيها رمل وطين أو حجارة وطين يختلطان فمن أنّثَ ذهب إلى البُقعة ومن ذَكّر ذهب على المكان.

وستجد الأمر يتكرر في معلقة الشاعر زهير بن أبي سلمى: أمِن أُمِّ أوفَى دِمنةٌ لم تكَلّمِ، بحُومانة الدّرّاج فالمُتثلِّمِ.. ديارٌ لها بالرّقمتينِ كأنّها، مراجِعُ وشمٍ في نواشِرِ مِعصَمِ.. بها العينُ والأرَامُ يمشِيْنَ خِلفَةً، وأطلاؤُها ينهَضْنَ مِن كُلِ مَجثَمِ.. وقفتُ بها مِن بعدِ عِشرينَ حِجّةً، فلأيّاً عَرفْتُ الدّارَ بعد توهُّمِ!

وفي التراث الشعبي «تنور المكان»، و»الدار من غيرك مظلمة» في إشارة الى أن الأماكن تضاء بوجود الأحبة الذين يعمرونها بالحب والرضا والحنان والأمان والبهجة، وتظلم حين رحيلهم أو غيابهم. وكثيراً ما رأينا بيوتاً مضاءة ليلاً رغم الانقطاع المتكرر للكهرباء وأخرى مظلمة نهاراً رغم قوة ضوء الشمس.

وقد يقال إنها الروح البشرية التي تضيء المكان بجمالها وتسامحها ورضاها وصفحها، وهي نفس الروح التي قد تظلم المكان بظلمها وجبروتها وتكبرها وسخطها. أكثر من ذلك، فثمة علاقة وثيقة بين جمال الروح ونورها وبين اتساع المكان وليس ضيقه.

وكان لي قريبان أحدهما يسكن في شقة بحلوان والآخر بشقة في شبرا، وكان لهما رحمهما الله من الأولاد والبنات، ما يكفي لجعل الشقتين تضيقان بهذه الأعداد، ومع ذلك كنت أشعر طوال الوقت إذا زرتهما أنهما يسكنان في بيت واسع ورحيب!.

ويقال أيضا إن الروح تظل بحاجة الى أخرى ترد فيها أو لها الروح، فسكنك وحدك في قصر منيف، لا قيمة له إذا لم يمتلئ بمن تحبهم، وحديقتك الغنَّاء، لن تشعر بجمال ورودها وبثمرها، إذا لم ينتشر عبقها ويتوزع ثمرها على الأهل والأحبة والجيران!.

وحين انتقلت للسكنى في القاهرة، حرصت على التردد بين الوقت والآخر الى القرية، حيث امتلأت شجناً يقترب من الخوف كلما سمعت رائعة بيرم التونسي بصوت عبد الوهاب أو نجاة، عن الفلاح الذي يتمرغ على أرض براح، والخيمة الزرقا ساتراه! والقعدة ويا الخلان والقلب مزقطط فرحان.. تتاقلها بجنة رضوان يا هناه اللي الخل معاه.. الشكوى عمره ما قالهاش «زمان طبعا» إن لاقى ولا ملقاش.. والدنيا بقرشين ماتسواش طول ماهو اللي حبه حداه!. ثم يصل بيرم الى قمة الابداع في الوصف مناجياً: ياريف أعيانك جهلوك، وعزالهم شالوه وهجروك.. لمداين مزروعة شوك، ياما بكره يقولوا يا ندماه!

أسرعت فور السكن بزراعة ورد فيما بقي من مساحة الأرض، مخافة الندم، ورغم أنني لم أنقل «عزالي» معي، ولم أهجر الريف، فإنني بين الحين والآخر، أفرح بمن يتصل بي من القرية، مؤكداً أنها تنتظرني في كل مناسبة، وكأنه يردد على مسامعي رائعة محمد عبده: الأماكن كلها مشتاقة لك»، وهل تشتاق الأماكن؟ هذا حديث آخر!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store