Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

التخييل، بين المحو والتعويض؟

A A
شغل التخييل فيلسوفاً كبيراً مثل هوسيرل. فهو يرى أنه لا توجد صورة موحدة وواضحة للصورة وكيفية تمثلها في الذهن بناء على شيء واقع وملموس، أي المرجع. ما قام به جون بول سارتر متأثراً بالفيلسوف هوسيرل الذي شكل قاعدة فكرية له في تعريفه التخييل، مهم ويستحق التفكير والتأمل. فهو يقترح مدخلين نقديين لتصورات هوسيرل في هذا السياق. أولاً، لا يوجد أي توصيف لجوهر الصورة مقارنة بجوهر التصور، يحاول سارتر أن يبين جوهر الاختلاف بين اللحظة التي يتخيل فيها المرء واللحظة التي يبصر فيها الشيء. ثانياً، يتعلق النقد بمادة الصورة الذهنية. لنفترض، كما يقول، عندي في رأسي الحيوان الخرافي السنطور. هل صورة هذا الحيوان الأسطوري موجودة في دماغي أم خارجه، في الواقع الموضوعي. لهذا يرى أن مفهومه ليس باعتماد فكر هوسيرل كلياً، ولكن بافتراض نظرية مناقضة له. يجب ألا ننكر أن توحد الصورة الذهنية بالصورة الحقيقية الفيزيقية التي يسميها سارتر عائلة الصورة. الاختلاف مع هوسيرل والذي لا يظهر جلياً ينشأ من خلال ما يفترضه هذا الأخير توازياً بين الملاحظة أو رؤية الشيء، والتخييل الذي لا يأخذ بعين الاعتبار خصوصية كل عنصر في تمايزه. هذا يظهر بوضوح عندما نتخيل شيئاً هو في الأصل افتراضي ومتخيل ينتمي إلى الأساطير، مثل الحيوان الخرافي السنطور. التخييل هنا ليس في حاجة إلى أصل مادي ومرجعي. وهذا يعاكس نظرية هوسيرل التي تفترض مرجعاً مادياً للتمكن من التخييل. يجب أن تطرح القصدية كجزء من الموضوع، هذا النقاش الفلسفي أفضى في النهاية إلى موضوع أكثر جدوى من المرجعية على هاجس الحرية. كيف يمكن أن تصنع من شيء موجود أو افتراضي وجوداً كلياً يدخل في بنية النص ليصبح جزءاً منها. إذا أردنا أن نتخيل كائنات ألف ليلة وليلة سنجد صعوبة كبيرة في رد الكثير منها إلى أصولها المرجعية، فكرة الجني نفسها تتصف ببعض المواصفات الاستثنائية فقط لكن صورتها نتخيلها نحن، ويكفي أن نذهب لكتب الأطفال الذين اختاروا جزءاً من الليالي لندرك أنها تختلف جوهرياً عن لعب لطفل، ويلعب فيها الدور الحاسم الفنان الذي تخيل بحرية الشكل كما افترضه هو والمثال قريب من مثال الحيوان الخرافي الذي اختاره سارتر ليجيب عن هوسيرل.

في النهاية لا يحتاج التخييل إلى مرجع واضح يحدد معالمه ويحد في الوقت نفسه من حرية التخييل. واحدة من أهم صفات التخييل أن يكون حراً بلا عوائق تحد من انطلاقه.

فعل الحرية هو الركن الأساس من فعل التخييل إذ بدون الحرية المطلقة، يظل الإبداع محصوراً في دائرة الواقع الموضوعي كما يحدث في بعض الروايات التاريخية، أو الاجتماعية بحيث يبقى الكاتب محصوراً في دائرة مغلقة، المرجع الذي يستقي منه الوقائع والأحداث. لا يمكن تصور تخييل غني ومثمر بالمعنى الفني والأدبي، دون حرية تخرجه من قمقم الضغوط الاجتماعية الدينية والأخلاقية. عنصر الحرية حاسم. وربما المعضلات الكبرى المرتبطة بالمصادرات والقمع الفني مرتبطة بهذا الفعل الذي قليلاً ما انتبهت له الدراسات الحديثة. أن تكون حراً يعني بالضرورة أن يكون خيالك غير مقيد بضوابط مسبقة. السياقات التربوية في الأسرة والمجتمع تحد من هذه الحرية وتهيكلها وفق ضوابطها، بحيث تستجيب للمعطى الاجتماعي. الدكتاتوريات العالمية، لا تفعل في النهاية إلا هذا. الاستيلاء على المخيال العام وإعادة تصنيعه. لقد تحكم هتلر في المخيال الألماني بوسيط مؤثر، أسطورة الجنس الآري العظيم والمنتقى. واسترجع أساطير الثقافة الجرمانية القديمة وبدأ في محو المخيال العام، وتصنيع مخيال وطني ضيق أصبح في النهاية سلاحاً تدميرياً للبشرية جمعاء. الدكتاتوريات الأصولية المتطرفة تصنع جنة على مقاسها وتفرغ المجمع من كل معارفه السابقة ومتخيله الموروث بحجة أنه كافر وغير متطابق مع الدين الصافي. المجتمع الحر هو المجتمع الذي يتخيل بحرية. طبعا هذا ينطبق على المخيال الجمعي. إذ يستطيع فنان كبير أن يجد التمثلات المختلفة ويقدم نماذج تخييلية متعالية على المجتمع بكل ضغوطاته ولكن ذلك يحتاج إلى موهبة عالية تستطيع أن تجمع كل الشظايات وتنتجها في نسق ثقافي واسع مثل حالة ألف ليلة وليلة.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store