Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريـف قـنديـل

الشجن الشفيف في رسائل النيل لأبناء الريف!

A A
توجهت لقريتي كعادتي الموسمية طوال تواجدي بمصر لتوديع فصل الصيف واستقبال الخريف. والحاصل أنني ذهبت هذه المرة حاملاً رسائل خاصة من النيل إلى أبنائها وفلاحيها، وإلى حقولها وطيورها وزهورها!.

ولأن النيل كما قلت وأقول دائماً يرصد ويراقب ويشتبه وينتبه، ولأنه كالجمل، يصمت ويخزن ويثور ويحتج ويعترض!، ولأنه لاحظ أنني رغم البعد أسكن قريتي وتسكنني، وفي غربتي تكون ملاذي وسكني، فقد اختارني لحمل هذه الرسالة، ومضى يحيي وهو يسلمني!.

هكذا حزمت حقائبي، وأنا أتوقف عند الحد الذي يختلط فيه الخيال بالحقيقة، والحقيقة بالجمال، وانطلقت!، وحين كنت أتجاوز بوابة الطريق الدائري سالكاً الإقليمي ومقترباً من «بنها» قررت أن أتحرى الصدق في النقل ما استطعت.. أن أقترب من الجذور وهي تشتاق لهطول المطر، حتى لا يكون حديث الأربعاء، محض أشعار ومجازات وصور!.

كانت وصية النيل الأولى للفلاحين أن تمسكوا وتماسكوا وحافظوا على ما بقي من الأرض أخضر!.

أقترب من «الباجور» حيث كان العنوان في سابق الزمان خصباً ونماء، قبل أن يصبح حجراً خلفه حجر!

تتسع الأحداق، ويتسارع النبض بطول الطريق، وتصدر مني أو عني آهة وراء أخرى من أعماق الأعماق.. يا الله .. لابد أن نستفيق! لا تهملوا الخضرة، ولا تستهينوا بأى زرعة.. ولا تحيلوا الأرض بالتدريج الى أجران مهجورة، حتى لا تحتل الأبراج الإسمنتية كل صورة!.

لا تهدموا الريف، ولا تستنكفوا خبز الرغيف، مهما كانت الاقتراحات العجيبة، والإجراءات الغريبة، وبعض القرارات المريبة!، تمسكوا بالطمي والنماء.. لا تحرموا الأبناء.. لا تجعلوا مشاعرهم خشباً في خشب، ولا تحيلوا مواهبهم الى حطب!، النيل يقول لكم: لا تقتلوا الحقول!.

ويا أيها الأبناء! إن قرية تهجرها معاني الخصب، وقيمة الطمي، ستصبح خاوية مقفرة، مهما كان الزحام فيها، ومهما كان إغراء القاهرة!.

وجدتني أردد من روائع فؤاد حداد: سلّم لي على الأحفاد، أولاد اللي كانوا ولاد، البُكّر في الاستشهاد، والطير اللي عدّى السلك.. بكرامة!

في المسافة من نزلة «الباجور» الى نزلة «منوف وتلوانة» تحديداً قرب الأصيل، غشيتني نوبة من الاطمئنان والسكينة.. السيارات تتقاطر محملة بالمحصول، ومن بعيد يظهر فلاحون مهرة، تنبت بين شقوق أصابعهم خير وخضرة!.

هالة من النور وخيول كتلك التي تخيلها المصريون منذ أقدم العصور، إنها خيول الأمل تركض على الأرض كتلك التي كانت تظهر في بحر النيل.

عدت لما حفظت من العم حداد: منين يا عم إبراهيم؟ قال لي أنا من الطير.. يا ميت صباح النعيم.. ويا ميت صباح الخير..ما أحلى الشقا لما أشقى.. بقلب أعقل وأشقى.. من العقول الشقيّه.. أعدل جناح الطاقيه..وافتح عراوي الصدير..لسه في حياتي بقيّه..تسأل عيوني اللي عاشقه..الطير مزاج وإلا نشأه؟، ولا الغرام اللي جابني.. والجو صاحي عجبني.. أقول لك الحق يا ابني

كلنا من الطير!.

ها قد دخلت من جديد في نوبات من الفرح المختلط بالدهشة وبالذهول.. الطيور تحيي مقدمي، وترد على رسائل النيل: لن نرحل! لن نترك الزهور وحدها تقاوم الذبول.. لن نترك الأرض للضياع.. لن نكتفي بالشقشقة والالتياع! سنغني كل يوم فوق كل أرض تأتيها مياه النيل، وتهطل عليها تلك الأمطار الذهبية.. سنغني لسواعد تتنافس تحت سماء فضية!.

كنت أحزم حقائبي للعودة الى القاهرة، وأنا أردد في شجن، ما قاله عبد الرحمن صدقي لزائرة عابرة: مهلاً!، لا تستعجلي توديعي، يا أول ابتسامة الربيع.. قدمت والربيع في أوان، فزنته بروحك الوديع.. بل أنت أحلى منه يا حبيبتي، بالروح والمنظور والمسموع!.

وقبل أن أتحرك، فوجئت بها تسلمني الرد على رسائل النيل، أن مهلاً، مهلاً! اطمئن! ستأتيك البشرى قريباً من الخرطوم أو حتى من واشنطن! وستشق لنفسك أكثر من مجرى!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store