Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

الرّواية الخطّية

A A
تقدم الرواية الكلاسيكية زمناً خطياً، تعاقبياً متواتراً وفق حركة الأحداث والوقائع. لا يوجد أي انحراف في النظام الزمني. نحن نشهد في لحظة القراءة، كيف يتطور مسار الشخصية من لحظة الزمن الأولى حتى اللحظة التي تختم حياة البطل. هناك مسار ستاندار، نموذجي تمر عبره غالبية الروايات الكلاسيكية الرومانسية. تنفتح الرواية على ولادة البطل، وسعادة العائلة به، ثم زمن نشوئه وشبابه، وكيف كبر واكتشف شيئاً من أسرار العالم. ويترعرع في وسط جميل يوفر له كل حاجاته الضرورية، ويقلل عليه من مصاعب الحياة. ثم يأتي زمن الحب الذي يرسم كيف أصبح البطل عاشقاً سعيداً مع حبيبته التي منحت له كل شيء ومنها أيضا كل ما يملك من جمال. تأتي بعدها لحظة القسوة، وانهيار مشروعه الحياتي بعد اكتشافه لخيانة حبيبته مع عاشق قديم ظل في السر. ضمن نفس الخطية يعيش القارئ عن قرب الهزيمة العاطفية التي تدفع به نحو التفكير في الانتحار، وهو الذي كان يظن أنه عثر على حبه الحياتي الأول والآخر. حب العمر. والدخول في لحظة الخيبة المفجعة. لكن فجأة يحدث ما لم يكن في الحسبان، ويكتشف اللعبة التي دبرها ضده العاشق الغيور الذي لم يقبل باختيارها له، أي للبطل، فصمم على تدمير العلاقة كلها. وتنتهي القصة بشكل جميل، ويلتقي البطل بحبيبته من جديد، ويعيشان في سعادة. الخطية الزمنية مستقيمة ولا تعرج فيها، تتبعت كل المراحل الحياتية للبطل. القارئ لا يجد صعوبة في الفهم، فهو داخل منطق التتابع.

ليس بعيدا عن هذا النموذج الافتراضي، رواية مدام بوفاري لغوستاف فلوبير. ترسم الرواية بشكل خطي، حياة إيما روولت Emma Rouault (مدام بوفاري لاحقا) التي تعيش مع والدها المزارع. كبرت في دير لتكون بعيدة عما يشين سيرتها. عاشت بين الكتب الوردية لتنسى الحياة الرتيبة غير تلك التي حلمت بها، فعاشت داخل الوهم الكبير. اختارت حياة حالمة لا تتواءم مع حقيقة الأشياء. نعرف منذ اللحظة الأولى أو نحس بأنها ستنتهي بشكل درامي. ثم تأتي لحظة الزواج بشارل بوفاري مما يشكل لحظة ثانية في صيرورة السردي الطبيعي بلا انحراف للخط الحكائي في الرواية. تصطدم مدام بوفاري بنموذج حياتي آخر لا يناسبها. على الرغم من أن شارل بوفاري كان زوجا مثاليا، فقد قدم لها كل ما يمكن أن يجعلها سعيدة. لكن ذلك لم يكن كافياً. اللحظة التي تجعل مدام بوفاري تبحث عن عالم آخر شبيه بعالم الأميرات في الكتب التي قرأتها. تدخل في نوبة اليأس بحثاً عن حياة حلمت بها. لكن البنية الزمنية ظلت تسير وفق طبيعتها الخطية ولم يوجد ما يجعلها تنحرف. لا يوجد ما يكسر خطيتها، التي ظلت تتنامى بشكل طبيعي. تكتشف في النهاية ضحالة حياتها الفارغة. حتى عندما أنجبت منه ابنتها، لم يتحسن وضعها. بين زمن حياتها الأولى وزمن الولادة سلسلة من الاكتشافات التي لا تدفع إلى أي تطور. ثم زمن اكتشاف حياة أخرى مع رجال آخرين تدخل معهم في علاقات سرية. يستمر الزمن كصيرورة اعتيادية بدون اختراقات. يلبي لها عشاقها كل رغبتها العاطفية التي لا تجدها مع زوجها والمادية أيضا لأنها مسكونة بغوايات الأشياء الثمينة. تصاب في النهاية بنوع من الملل، ومن الضياع الذي يدفع بها إلى التدهور، والغرق في الديون.

لم يختلف نجيب محفوظ المتأثر بالواقعية الفرنسية من خلال أقطابها: بلزاك، فلوبير وزولا، عن هذه الخطية، في ثلاثيته (الثلاثية تتكون من ثلاث روايات هي كالتالي: بين القصرين (1956)، قصر الشوق (1957)، السكرية (1957))ظل وفياً للنهج الروائي الذي اختاره. فقد اتبع محفوظ نفس الخطية الكلاسيكية. نجد نفس التراتبية في الأحداث والوقائع، ونفس الأنساق الزمنية. وحتى يتحكم فيها نجيب محفوظ زمنياً، اختار لها شخصية موحدة هي أحمد عبد الجواد. ويتتبع محفوظ حياة شخصيته الرئيسة وفق تتابعية زمنية كلاسيكية تبدأ من الطفولة، فالمراهقة ثم الشباب، فالكهولة. وكل الأمكنة المرجعية هي أمكنة حقيقية مثل الجمالية التي يعرفها نجيب محفوظ جيدا لأنه عاش فيها، الأمر الذي أعطى بعض المصداقية لثلاثيته. لكن الثلاثية تغيب هذه المرجعية المكانية بالمعنى الواقعي، في فضاء التحول الذي طرأ عليها وعلى مختلف شخصيات الرواية. على الرغم من الأزمنة التاريخية المتعددة تظل الوتيرة واحدة، بدون إرباك جوهري يخلط الزمن التعاقبي الذي اختاره الكاتب.

الخطية تضمن مساراً طبيعياً للرواية، شبيهاً نسبياً بخطية الزمن الاجتماعي والحياتي.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store