Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

الكتابة وظلها

A A
كلما كتبت نصًا إبداعيًا، انتابتني أسئلة محيرة.. هل الكتابة جهد فردي، تنتجه عبقرية ما اخترقتها تجارب الحياة بقوة حتى صهرتها، أم أنها تحتاج إلى سند، سند ما له تأثيره في بقية المسارات.. أي أن الكتابة في معناها الإنساني هي شراكة ما تتجلى بمختلف الأشكال.. هناك دائمًا ظل لا نراه، ولا نعرفه يصاحب الكاتب ويرافقه في رحلته، ويمنحه الكثير من حبه وسخائه، وربما من فيض تجربته.. لا هدف له إلا المساعدة في أصعب اللحظات وأكثرها قسوة.. من يتتبع حيوات الكتاب سيلاحظ ذلك بقوة.. لا وجود لكاتب دون ظله، ودون تلك اليد السرية الحنونة التي أوصلته بشكل ما على بر الأمان.. قد يكون هذا الظل والد مساعد أو والدة منشغلة بمستقبل ابنها.. يريان في الموهبة ما يستحق المتابعة والإنصات.. قد يكون صديقًا عزيزًا يشتغل في مجال النقد أو الإعلام والنشر ورأى أنه من الضروري وضع المنتج الثقافي في السوق والمشاركة في ترويجه لأنه يظن أنه مهم ويستحق.. قد يكون حبيبًا عاشقًا لحبيبته ويريد أن يمنحها الأجمل دومًا، وقد يكون كتابًا عزيمًا سكن الموهبة.. أكثر من ذلك قد يكون مجرد صدفة قلبت كل الموازين.. وأعتقد أن من يقرأ سير الكتاب والمبدعين عمومًا لا يحتاج إلى كبير معرفة ليكتشف دور الظل الذي هو شيء حاسم في الكتابة والفن.

لكن المشكلة الكبيرة هي أن هذا الصنو المرافق لا وجود له في النهاية الذي يزهر يظهر في المشهد هو الكاتب والكاتب فقط أو الفنان.. عندما يصبح المبدع مشهورًا يحرق كل التفاصيل السابقة للشهرة.. ولا يظهر في سياق الأنانيات الطبيعية إلا اسمه.. بينما تمحو آلة الزمن الظل المرافق الذي لولاه لماتت التجربة في بدايتها.. وكأن محو للظل هو جزء من فعل الكتابة.. هناك مصائر وأقدار شديدة القسوة.. تأتي هكذا مصادفة فتفرض نفسها على الإنسان ولا خيار له فيها..

قصة غريبة تلك التي جمعت الكاتب الجزائري الفرانكفوني رابح بلعمري، بصديقته، ثم زوجته إيفون لوفور.. تجسد فكرة الظل في الكتابة بامتياز.. كل شيء بدأ بتلك اللحظة الدرامية.. عندما كانت الجزائر تحتفل بعيد استقلالها في 5 يوليو 1962، كان رابح بلعمري يبحث عن بصره ليخزن مشاهد الاستقلال، لأنه يومها فوجئ بفقدانه بسبب انتزاع الشبكية.. فجأة حل الظلام من حوله.. لنا أن نتخيل الحالة النفسية لشاب مقدم على الحياة في منطقة بواعة الفقيرة التي كبر وترعرع فيها.. تحول يوم الاستقلال إلى رماد، شبيه بسنوات الجمر والموت.. سجل بلعمري ذلك كله في سيرته الروائية: النظرة الجريحة.. فكر يومها بلعمري في الانتحار، لكن شيئًا في أعماقه منعه من ذلك وقاده إلى شيء من التأمل، مسترجعًا الكتاب الكبار الذين على الرغم من فقدان البصر أصبحوا كبارًا، طه حسين، هيلين كيلر، خورخي أمادو، وغيرهم.. فجأة تحول الانتحار إلى إرادة صلبة للتخطي.. دخل إلى المدرسة وتعلم الكتابة والقراءة بطريقة البرايل.. ثم التحق بالمدرسة العليا للأساتذة بالجزائر العاصمة، قبل أن ينتقل إلى باريس في 1972 من أجل مواصلة الدراسة بالسوربون ليحضر بها الكفاءة ثم الدكتوراه.. إرادة رابح كانت جد صلبة.. لم يلن ولم يستسلم حتى في أصعب اللحظات وأقساها.. اشتغل بعدها على الشاعر الجزائري الكبير جون سيناك، الذي كان يكن له حبًا كبيرًا على شجاعته وخياراته.. كان بلعمري يحمل ميراثًا ثقافيًا كبيرًا، خزنه من قريته ببوقاعة، ودونه لاحقًا في قصص موجهة للأطفال.. ظل في كل محاولاته الثقافية، يرفض القدر الذي فُرض عليه، ولم يقبل حالة فقدان البصر كنهاية لحياته الثقافية والإنسانية.

في فرنسا، يتعرف على إيفون لوفور كما حدث لسوزان، زوجة طه حسين التي منحت بصرها وحواسها الحية لزوجها.. تصمم إيفون التي تعاطفت مع حالة صديقها رابح بلعمري، وأحبت إصراره على النجاح، على الذهاب بعيدًا في مساعدته.. وظلت تلح أن عاطفتها تجاهه حقيقية ولا علاقة لها بالشفقة.. وعلى الرغم من صعوبات الأهل، تتخطى إيفون كل العقبات وتتزوجه.. لم تقف في وجهها العوائق الاجتماعية أو الثقافية.. كانت مؤمنة به لدرجة أن أصبحت بصره الغائب، بها يقرأ ويتذوق الفنون، وبها يكتشف الثقافات الإنسانية.. إلى أن أصبح علامة ثقافية إنسانية واسعة الانتشار.. فقد منحته بصرها وعلمها وأمومتها.. كانت وراء تشجيعه لكتابة سيرته الغنية..

في سنة 1987، ينشر روايته الأولى النظرة الجريحة في أكبر دار نشر فرنسية، غاليمار.. تنبه يومها النقاد والمتبعون لتجربة روائية جديدة ومميزة.. حتى أنها عندما نسته الجزائر كليًا، ولم تهتم به حتى ميتًا (توفي سبتمبر 28 سبتمبر 1995)، منحته إيفون مساحة صغيرة في مقبرة العائلة، التي دفن بها بالشكل الذي أراده.. كانت إيفون ظله الذي لم يتخلص منه لأن حياته ارتبطت به بقوة.. وكان رابح في كف إيفون، حفنة من نور.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store