Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريـف قـنديـل

الغناء للطنبور والزمن الذي يدور.. والحنين لطش البرسيم!

A A
لم يبالغ رائد العامية المصرية فؤاد حداد وهو يؤكد على فصاحة الفلاح المصري مرددا: حضنك يا مصر المطرح الدافي.. شايل عباية ونور على كتاف.. عمال أغني وكمي بيشاور.. علي فلاحين في الفصاحة يغلبوا الشاعر!

والحاصل أن الشعر يرتبط بالزراعة أكثر من ارتباطه بشيء آخر، والطمي قاسم مشترك! وابتداء من طش البرسيم، ونهاية بحصاد القمح، مرورا بتقليع البطاطس، وقطع الذرة، وجمع البرتقال، وجني القطن، يمضي الفلاحون الشعراء في ترديد الأشعار الجميلة، في احتفاليات موسمية مدهشة، لا تخلو من الحكم والأمثال الشعبية، وغيرها.

لكن أكثر ما استوقفني في الشعر الغنائي الذي يستخدمه المزارعون، كان هو تلك الأبيات أو الكلمات المحفزة للطرفين اللذين يستخدمان «الطنبور» في الري!

والطنبور هو مضخة حلزونية بسيطة، كانت تستخدم لري الأراضي المرتفعة عن مستوى سطح الماء بمقدار متر أو اقل، لها يد وبداخلها لولب خشبي يسحب الماء بالدوران فيحجز قدراً من الماء ويظل الماء يرتفع إلى أن يصل إلى بداية القناة التي تصل إلى الحقل ليصب الماء تماماً في المكان الذي يجلس فيه الفلاح.

ويتوجب على الفلاح بطبيعة الحال أن تكون قدماه في الماء طوال الوقت، فيما يقاوم قدر المستطاع انحناءة الظهر، مرددا: على الله.. على الله، القمح أهو طاب.. فيرد الآخر: على الله، طلب الحَصاد.. على الله، حصادُه أتأخر.. على الله، والسبل اتكسر.. وعلى الله، بخت العيال.. على الله.. الصيفَة حلال.. على الله».

والمدهش أن «الطمبور» الذي هو آلة ري في مصر يغني الفلاحون اثناء استخدامها، فيما هي عند السوادنيين آلة وترية جميلة تصدر أصواتا أجمل للحنين والوصال والشجن.

ويبدو أن أرضنا في «مقطع الرمل» كانت سهلة الري، بحيث لا يحتاج المزارع لاستخدام «الطنبور» كثيرا، لكن هوسي بغناء الفلاحين أثناء استخدامه، جعلني أطلب من صديقي «محمود عطية» أن يأخذني معه لحوض «الخمسين» أو أي حوض آخر، يلزمه استخدام الطنبور وقد حدث.

وكان لمحمود عطية دارا طينية فسيحة، على مسقة «الثلاثين» هي أجمل وأنظف الدور، حيث حولتها زوجته الراحلة «جواهر» ال ما يشبه الفيلا الأنيقة، وفيما تفوح رائحة النعناع والريحان من القلل المتراصة بفن ومهارة، تنسدل عناقيد العنب، وتقسم «جواهر» أن الغداء جاهز، فنعتذر على وعد في المرة القادمة، مكتفين بكيزان الذرة، ومستمتعين بسماع صوت الساقية، لا يقطعه سوى صوت «الفرقلة» لحث البقرة على الدروان بانتظام ودون توقف.

والحق أنني لم أتبين ما إذا كان الغناء أثناء ممارسة أي مهمة زراعية، هو على سبيل التسلية ومقاومة الإرهاق والتعب، أم هو استجابة لنداء الأرض، وفرحة الطمي، أم هو مشاركة للطيور المحلقة في السماء وتلك المنتشرة في الحقول.

على أن أجمل مشاهد الأرض على الإطلاق كانت عند طش البرسيم، فبعد ضم الغلة، وما أحدثته عيدان القمح المتزاحمة بكثافة، يتم النزول بمحراث يجره ثوران أو بقرتان، وعقب انتهاء الحرث، تبدأ التسوية أو «التجريف الخفيف» دون جور على الأرض، باستخدام «الجرافة» التي يجرها نفس الثورين.. عندها تتحول الأرض الى ما يشبه استاد كرة القدم تسوية ونظافة، ثم تنزل «القصابية»، وبعدها «التبانة» لتقوية الحدود في الأرض التي تحولت الى أحواض غاية في الجمال والروعة، قبل أن يتم غمرها بالماء تماما.

في تلك الأثناء، وكما لو كانت البرقيات العاجلة والخارجة من رحم الأرض وصلت الى «أبي قردان»، الذي يأتي أسرابا وجماعات، تجعل المساحة كلها بيضاء، قبل أن تبدأ عملية طش البرسيم!

أسبوع واحد، وتتحول الأرض التي كانت لتوها شقوقا عميقة، وكأنها تشكو الزمن، الى جنة خضراء، حيث ينبت البرسيم، وتنتشر على الجانبين أعواد الجعضيض واللوبين.

كنت أتأمل مشهد الطنبور، وأنا أسأل نفسي هل علمت هذه الآلة أجدادنا وآبائنا قيمة الصبر والتحمل والرضا بالمكتوب، باعتبار أن الزمن دوار، وأن عجلة الحياة تلف وتدور؟ وهل توارثنا هذه القيم جيلا بعد جيل، حتى زهدنا بحمد الله في المظاهر الدنيوية الخادعة والبراقة.. الكراسي على فخامتها، والمناصب على وهجها؟!

الآن لم يعد هناك طنبور، ولا ساقية، ولا محراث، ولا جرافة، ولا بتانة، وحين كنت الأسبوع الماضي أمر بسيارتي على حافة غيط البرسيم أثناء الطش، وجدت «أبو قردان» فنزلت وجريت نحوه، فوجدته يطير فيما كنت أناجيه، قائلا: ارجع يا زمان!

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store