Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. عائشة عباس نتو

مذ كنّا ونحن متعايشون

A A
مكة المكرمة، تلك المدينة النابتة في جغرافيا القداسة الكونية، جميلة هي في جوانبها الأخرى، وتنوع سكانها.. تعم أهلها السكينة بهدوء وروحانية.

أقول هذا وأكرره، لأن مكة مدينتي التي ولدت ودرست فيها، حيث كان دكان والدي يقع في السوق الصغير.. هذا السوق ظل يكتظ بحكايات التعايش وقبول الآخرين.. لقد كان يعج بمطاعم وأكلات متنوعه، ومحلات ضيقه، لا تتسع إلا للأرواح الودودة المتعايشة.. تمر بك الذكريات فتصغي لكل صاحب دكان في السوق يروج لسلعته، حسب المنتجات، مرة بلحن جميل، ومرة يسوّق لها بلغات مختلفة اكتسبها من حجاج بيت الله.

كنت أتردد بين الفينة والأخرى على دكان والدي -رحمه الله- فيطلب لي مشروب «السوبيا» البارد، آيسكريم الذاكرة في حرارة الصيف، حيث الزمان يعلو على المكان.. صدقاً، كان تجار السوق الصغير بقلوب موصولة بعضها ببعض.

في إحدى الزيارات، كنت أجلس في دكان والدي رحمه الله، دون أن يثير اهتمامي من يحضر أو يغيب، فالبنات في ذلك الزمان لا يسمح لهن بمزاولة البيع والشراء.. حضر أحد أبناء القرى المجاورة يعرض منتجاته، ومنها الجبنة والسمن البلدي التي كانت مرغوبة من بعض سكان مكة.. رفعت بصري على أثر صوت زحزحة المقعد المجاور لوالدي ليجلس ذلك القادم من القرية بلباسه المختلف.. اصطدمت عيناي بوجهه الحنطي البشوش.. تقدم منه والدي، بسماحته التي تعودت رؤيتها في التعامل، وسأله بأدب جم إن كان معه تلك المنتجات المعتادة؟ أجابه بمحبة وتواضع نعم، ولم يتوقف، بل أكمل بصوت خافت، «بالمناسبة لدي جبن بلدي يحبه قلبك».. كنت أراقب حركاته وكلماته تخرج من عمق حنجرته، وتسقط على مسمع المحيطين بلغة التعايش والقبول، راقبت نموذج البيع والشراء في السوق الصغير الذى أتمنى أن يكون نموذجًا لكل العالم في التعايش.

أهدي هذه الذكريات للعنصريين الذين يكررون عليك سؤالهم المعتاد «من فين أنت؟ وإيش تعود؟».. لعل كل غافل أو جاهل يفيق، حتى ولو بالعودة لتاريخنا القريب!

شكرًا أيها المحبون لوطننا الغالي، الذين جعلتم المدن والمحافظات والمراكز أماكن للتعايش بين أبناء الوطن والمقيمين فيه.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store