Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محسن علي السهيمي

السلف وجدلية النقل والعقل

A A
لعل أكبر تهمة توجه اليوم للمستمسكين بالتراث الدِّيني هي مصادرتهم للعقل مقابل تمسكهم بالنقل، مع أنه لا تعارض بين النقل (الصحيح) والعقل (الواعي)، وإن كان من تعارض فإنما هو لخلل في صحة النقل، أو لفساد في أحكام العقل.. العقل ملَكة ربانية وهبها الله الإنسانَ ليميز بواسطتها الخطأ من الصواب، ويصدر بواسطتها الأحكام، وهو مصدر الفهم والإدراك لديه، أما النقل فيطلق على ما نُقل إلينا من كلام الله تعالى (القرآن الكريم)، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الصحيحة.

الجدلية القائمة اليوم هي في أيهما له حق التقدم على الآخر، النقل أم العقل؟ وهل جاء النقل ليبقى مصادمًا للعقل؟ وهل وُجد العقل ليبقى مصادرًا للنقل؟ القضية أكبر من أن يحاط بها في مقال عاجل، غير أنه يمكن أن يقال: إن النقل على شقين: القرآن الكريم، وهذا صحيح قطعًا ولا مرية في ذلك، والسنة وهذه فيها الصحيح وغير ذلك، لكن متى ثبتت صحة المنقول منها فإن النقل هنا يصبح حجة لا يمكن صرفها أو تجاهلها، بالمقابل متى كان العقل ذا تفكير منطقي سليم، فكذلك لا يمكن صرفه أو تجاهله.. وعلى هذا تكون الأولوية للنقل في أمور الإيمان والعبادات والمعاملات، وعالَم الغيب المسمى ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا)، وهذه الأخيرة لن يبلغها العقل، ولذلك كان نقد كانط للميتافيزيقا كما يذكر مجدي كامل في كتابه (إيمانويل كانط.. فيلسوف عصر التنوير..)؛ «لأنها قدمت أجوبة عن موضوعات الميتافيزيقا بدون أي فحص لأداة المعرفة نفسها، وبدون الالتزام بالقيام بفحص نقدي للعقل ذاته».. وما عدا ذلك من أسباب الحياة وعلوم الدنيا ومستحدثاتها تكون الأولوية فيها للعقل، ولا يعني هذا مصادرة التقاطع بين النقل والعقل في كثير من الأمور؛ فقط هناك أولويات.. ما سبق من جدلية بين النقل والعقل هذه تتعلق بالأجيال الحالية والأجيال التي سبقتْها في القرون القليلة الماضية، لكن ماذا عن موقف السلف -وبالأخص الصحابة الكرام- من النقل الذي كان حيًّا بينهم، مقابل العقل؟ هذا الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يُقبِّل الحجر الأسود، ثم يُحكِّم عقله في صنيعه، فيخرج بنتيجة مفادها «إني لأعلم أنك حجر، لا تضر ولا تنفع».. على هذا فالعقل بمنطقه الواعي هدى عمرَ إلى الصواب؛ وهو أن الحجر الأسود حجر ليس منه ضرر ولا نفع، لكن هل توقف عمر عند استنتاج العقل، واكتفى به؟ لا، بل وازن بينه وبين النقل (السنة النبوية)، فقدَّم ما نص عليه النقل (السنة) على ما توصل إليه العقل، كون السنة جاءت بـ»ولولا أني رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك».

وهذا الصحابي عبدالله بن جبير في خمسين من الصحابة يأمرهم الرسول أن يبقوا على جبل الرماة ليحموا ظهور المسلمين في غزوة أُحد، ويأمرهم ألا يبرحوا مكانهم سواء انتصر المسلمون أو غُلِبوا، لكنهم عندما رأوا النصر تحقق للمسلمين حكَّموا العقل وخالفوا النقل -الذي كان حيًّا بينهم- فحصل في المسلمين ما حصل من القتل.. ومع المكانة العالية للنقل إلا أن الرسول لم يجعله فاصلاً في كل شيء خصوصًا في بعض أمور الدنيا؛ فقد قال لأصحابه في حديث (تأبير النخل) «أنتم أعلم بأمر دنياكم».

فلعل لنا اليوم في هذه الوقائع الثلاث التي وقعت في الصدر الأول للإسلام -ومثيلاتها- مَخرجًا من الجدلية القائمة حول أحقيَّة (النقل والعقل)؛ فقد اتضح أن النقل والعقل لا ينفكان عن بعضهما، وأن بينهما الكثير من التقاطعات، لكن للنقل (الصحيح) مجاله الأوسع في أمور الدِّين والغيب، وللعقل (الواعي) مجاله الأرحب في أمور الدنيا.. وتستقيم المعادلة بما ورد عنه صلى الله عليه وسلم: «إذا كان شيءٌ من أمر دنياكم فأنتم أعلم به [العقل]، فإذا كان من أمر دينكم فإليَّ [النقل]».

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store