Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريـف قـنديـل

"الحلاوة الجاطعة" وصعوبة التفريق بين الجميل والجمال!

A A
كمن وجد شيئاً ثميناً وهو بالفعل ثمين، صرخت في مخزن أحد فروع الهيئة المصرية العامة للكتاب وأنا أضع يدي على كتاب لأستاذي الدكتور عزت قرني يتحدث فيه عن الفرق بين الجميل والجمال!، وكنت قد قضيت نحو عام كامل في تأليف كتابي «شواهد الجمال في دفتر الترحال»، دون أن أتوصل الى هذا التفريق! لكن فرحتي في الحقيقة لم تتم بالشكل الذي تصورته، فقد ظل أستاذي يراوغني ليلتين كاملتين، دون أن أصل لما أطمح إليه!.

مضيت مع الأستاذ من البداية أو كما يقال «واحدة.. واحدة» ذلك أن عناصر موقف الاتصال الخاص بالجمال ثلاثة: الشئ الجميل أو «الجميل» اختصاراً، والذات المدركة، وتصور الجمال عندها.. ومن ثم كان عليّ طوال الوقت أن أهتم بالثلاثة معاً، أي بالشئ الموضوعي، وبإدراك الذات، ويتصل بذلك ما ينتج عنه من نتائج لدى الذات، وبتصور أو مقدر الجمال الذي نستعين به لنصف الشئ المعين بأنه جميل!

وكنت قد حصلت على قرش صاغ «مثقوب» من زمن العملة المصرية القديمة، أهداه لي الدكتور عزت قرني، في مدرج «آداب علوي» بجامعة عين شمس، أمام مئات الطلاب والطالبات، بعد أن نجحت في تقديم إجابة شافية لسؤال دار حول رسائل «إخوان الصفا»! ولأن ذلك كذلك، فقد دفعني إغراء قرش جمالي معنوي آخر لأن أمضي مع الأستاذ!

إن كلمة «جمال» هي اسم معنى، وحين تتحدد خصائص هذا التصور، فإنه يتحول الى مفهوم! وحتى يتم ذلك، فالناس تشير الى ألفاظ قريبة من الجمال في حياتها اليومية..ومن ذلك رائع، جذاب، وسيم، متألق، مليح.. وفي استخدامات أقل تقترب من العامية، نقول: الروعة، العظمة، البهجة، لنصل أحيانا الى معنى أوضح هو «الحلاوة»!

أتذكر هنا صديقي حين جاء يخبرنا بأنه قرر خطبة فلانة بنت فلان، فلما سألناه عن صفاتها قال بتلقائية: «حلوة»! فسأل أحدنا بخبث «حلوة إزاي يعني؟» فرد بتلقائية أكثر.: «حلاوة قاطعة» قالها بالجيم «جاطعة»!

بهذا الطعم مضيت مع الدكتور عزت، وهو يشير الى أن بعض الفلاسفة من قال إنه لا يمكن تعريف الجميل والجمال، ليس فقط لاختلاف الناس حول هذا الأمر، ولتعقد المسألة على نحو يعترف به الجميع، بل وكذلك، لأن في الأمر سراً لا يمكن تقديم مفاتيحه، ولأن الجمال نفسه سر عظيم، لا يمكن أن يخضع للتحليل، ولكن يمكن الاحساس به والشعور بحضوره فقط، ومن ثم لا تسأل عن الخبر، بل قل وحسب: ها هنا الجمال!.

وكنت قد استعضت في كتابي بل في إحساسي، بما سميته هنا في مقال سابق باللحظة الجمالية، تلك اللحظة النادرة التي تسبقها ساعات من المعاناة، والتي أشعر بها ..وبإحساسها.. وبطعمها! لحظة أو رجفة أو انخطافاً وجدانياً بات يتملكني فور أن أتهيأ للكتابة!

وقلت فيما قلت في تعريفها إنها عندي لحظة تفتق الوردة التي كانت لتوها برعماً أو كياناً «مغمضاً» وهي بعبارة أخرى لحظة الانخطاف والانتشاء الجمالي الشفيف الذي يسمو على لذة الجسد ومتعته، كما يسمو على الصنعة والمهارة في الانجاز!

كانت لذة الشعور بصعودي لاستلام القرش صاغ القديم من الدكتور عزت، مازالت كامنة في كياني ووجداني، ومن ثم فقد عدت اليه مرة أخرى وهو يستدرك قائلاً: حتى لو اتفق اثنان أو أكثر على معيار الجمال، لكون ذلك الشئ مبهجاً فإنه من المستحيل حسماً ونهائياً الوصول الى ما يقصده كل واحد في داخلية ذهنه!. وهنا يصبح السؤال الخطير أو المحير: كيف ولماذا يصير الجميل جميلاً؟! ويرد بقوله إن طرح السؤال بهذه الصيغة قد يكون مخلاً للتغلب على هذا الموقف التشككي المتطرف، والذي سيؤدي في النهاية، الى كف اليد عن كل بحث في طبيعة «الجميل» ومن ورائه «الجمال»!

وكأنه يحاورني، قبل أن يعطيني قرشاً جديداً راح أستاذي يقول إن الذي يظهر أمامنا أول ما يظهر هو هذا الجميل أو ذاك، ومن خلاله قد نرتفع أو لا نرتفع الى اسم صفة «الجمال»، وعليه فإن المطلب الحق هو تعريف «الجميل» أولاً ثم «الجمال ثانياً!

وافقت ودلفت سريعاً لأرى الفرق فاذا به يقول إن تعريف الجميل يتم من خلال إبراز صفات الجمال التي جعلت منه جميلاً!

وكما لو لاحظ حيرتي معه، قال: يبدو أننا نقع في «دور» حيث يختلط تعريف «الجمال» مع تعريف الجميل في الممارسات الفعلية، ويظهر تعريف الجمال، وكأن له أولوية منطقية، لأنه تعريف للمجرد، بينما الجميل متعين بالضرورة.. الجمال أي جمال الجميل، أو حتى كون الجميل جميلاً إنما هو أمر معجز، وبالتالي لا يمكن التعبير عنه بالكلمات وبالتصورات!.

تحملت واصطبرت، فإذا به يقول، قد نحاول إيجاد مخرج من كل هذه الصعوبات إذا قلنا بأننا قد لا نستطيع فهم «الجمال» لكن الفهم قد يتجه الى «مفهوم الجمال» أو معناه!.

ظننت أن الاستاذ بدأ يترفق بي وهو يقترب من المطلوب قائلاً إن مفهوم الجمال يعني الشكل المناسب الذي يرضي ذهن المدرك له، واذا به يقول «لكننا بهذا لا نعرف الجمال ولا الجميل، بل نضع أصابعنا على ما يتسبب في وصف الجميل بالجمال!.

انصرفت مؤقتاً عن أستاذي، ورحت أسأل نفسي وأشحذ ذاكرتي، وأنا أتحسس مشاهد وشواهد الجمال، وعلى سبيل المثال لا الحصر كنت أرى «الجمال» رأي العين في حضور أمي، وعندما جاءت حفيدتي «كاميليا» بعد حفيدي الأول «زين» احتفت بها فجأة كل ورود الحديقة، فلما رأيتها رأيت «الجميل» قبل أن أعرف أن اسم كاميليا، ينطق بالعربية على هذا النحو وباللاتينية: CAMILLA، وبالإنكليزية: CAMILLE ومعناه: الزهرة النقية، البريئة.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store