Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريـف قـنديـل

عصفورا الحب اللذان طافا بي على مطاعم أوروبا

A A
أعادتني الزميلة الرقيقة جوسلين إيليا وهي تنشر في «الشرق الأوسط» قصة «بتول ووحيد» إلى فترة من أجمل فترات العمر، قضيتها في لندن، وتنقلت خلالها بين باريس وبروكسل وجنيف وفيينا ومدريد!. كانت جوسلين تكتب عن عصفوري حب جمعهما المطبخ والسكر، وكانت عصافير بطني تزقزق لأول مرة مع عصافير الفكر!.

أما بتول فهي فلسطينية، طاهية وخريجة جامعة اليرموك الأردنية، حائزة على شهادة في علم الآثار، مولعة بتاريخ الطعام والفن، بعد انتقالها للعيش في لندن انخرطت في برنامج لتنمية المواهب، يشرف عليه الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا. وأما رشيد فهو سوري الجنسية، أحب بتول وتزوجها وتخلّى عن عمله في قطاع حقوق الإنسان، وراحا يخططان لمستقبل واعد وأحلام عديدة على رأسها امتلاك مطعم خاص بهما يقدم أصنافاً من الحلوى الفريدة من نوعها. وكان ما كان وكبر الحلم وأصبحا يملكان سلسلة من المطاعم التي تحمل علامة «بتوليز»!، ورغم طغيان عصافير البطن التي زقزقت في مكتبي من الجوع، فقد طفتُ بذاكرتي إلى أحب المطاعم التي دخلتها في أوروبا.

والحق أنني لم أكن «أكِّيلا» على النحو الذي كان عليه رؤسائي وزملائي في ذلك الوقت، وعلى رأسهم عماد الدين أديب، فضلاً عن الطريقة التي كانوا يتحدثون بها عن أهم الأكلات وأشهر المطاعم!.

والواقع أن حبي للمطاعم منذ الصغر، لم يكن بدافع الجوع، أو حتى التذوق، بقدر ما كان حباً للمكان، وإحساساً بالحرية والاستقلالية، والهروب من سطوة «ضكر البط» والمحشي والبامية والملوخية!.

في المرحلة الثانوية، بدأنا نعرف المطاعم في الباجور، وقويسنا، وشبين الكوم، وبنها وغيرها من المدن التي زرتها أثناء حراستي لمرمى فريق أشمون الذي كان يلعب في دوري الدرجة الثالثة، خاصة اذا تمكن الفريق من الفوز أو التعادل، غير أن الحلم الكبير ظل هو دخول مطعم «اكسليسيور» الواقع في شارع سليمان باشا، بالقرب من سينما مترو في القاهرة!.

سريعاً ومن كرم الله، تحقق الحلم، وحين سألَنا خطيب شقيقتي «حسن شلحة» ونحن نمضي معه في شوارع القاهرة: أين تأكلون! أجبت على الفور وبثقة وكأنني زبون دائم: في اكسليسيور!.. وقد كان!.

في ركن من المطعم، كان رسام أظنه فرنسياً يشرح لفتاة مصرية، كيف تمكن بحسه وعشقه للمكان من رسم شارع الأزهر، وحين مررنا على مقهى «ريش»، كان

زوج أختي الكبرى الشاعر محمد عفيفي مطر يتحدث لنحو عشرة من الشعراء الشبان، وعشقت المكان!.

ورغم كثرة المطاعم التي دخلتها في لندن بصحبة الدكتور صلاح قضايا، وبمعنى أوضح «على حسابه» ، فقد انبهرت بمطعم «رولز» لا لجمال أكلاته، وإنما لعراقته، وهو الذي شهد 9 أنظمة حاكمة على مر العصور!

وحين زرت باريس، جلست في مطعم شهير بالقرب من محطة مترو مابيلون بالحي اللاتيني لا لشئ سوى لأنه كان المكان المفضل للأديب العالمي فولتير ثم جورج ساند وبول فيرلين وأونور دو بلزاك وفيكتور هوغو وألفريد دي موسيت فيما بعد.

وفي العاصمة الأسبانية مدريد، وحين كان مرافقي ومستضيفي الدكتور بهيج يستعرض أسماء المطاعم التي يرشحها لي للغداء، قلت: «بوتين»!، قال: معك حق، إنه يقدم أشهر طبق للخروف المطهي بفرن الخشب!، قلت: حتى ولو كان يقدم الفول، اخترته لأن اسمه ورد في رواية همنغواي (الشمس تشرق أيضاً)، وضحكنا!.

والحاصل أنني أدركت مبكراً أن القيم الجمالية هي غذاء الروح ، وأن غذاء الروح لا يقلّ أهمية عن الغذاء المادّي للإنسان. ولأن الأول، يساعدنا على أن يبقى عالمنا جميلاً يسرّ العين والروح معاً فمازلت حتى الآن أهتم كثيراً بأشكال الصحون، وألوان مفارش السفرة ونوعية الملاعق والسكاكين!

لقد أحببت كذلك طعم الحروف، خاصة تلك التي تأخذ جمالها من ألسنة وأفئدة المحبين، وربما كان ذلك سر قناعتي بأن الكلام مثل الطعام، فهناك الشهي والجميل وهناك البارد والثقيل، ومن الكلام ما هو ماسخ ومنه ما هو حامض، وما هو مُر، لكن الأمرَّ منه مصدره!، وهناك من الكلام مثل الطعام ما يمكن ابتلاعه على مضض، ومنه ما يستحيل بلعه ومن ثم هضمه!.. لعلك تلاحظ معي أن الأساس في استطعام طعم الطعام هو الشمٌّ والذوق، ومن ثم فحين يصاب الإنسان برَشْحٍ يشعُرُ أن طعم الطعام قد اختلف في فمه. كما أن الأساس في استطعام الكلام مساسه بالقلب وبالوجدان من عدمه، ومن ثم فهناك كلام بلا معنى ولا طعم!.

أذكر أنني في سفراتي المتعددة الى القاهرة، كنت أجمع فتيان وبنات العائلة لمطعم أبو طارق، ليس حباً في الكشري، وإنما حباً في أجواء الألفة، ومرة جمعتهم في مطعم شعبي شهير اختار لنفسه اسم «زيزو نتانة» ولأن كل ما يقدمه صعب الهضم، فقد اكتفيت بالضحك والاستمتاع بالأجواء الساحرة!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store