Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريـف قـنديـل

قبل أن تكتب تواضع وقل: أتيت بعد فوات الأوان!

A A
أعترف أنني كنت أكاد أطير فرحاً وشوقاً وحنيناً الى أحد فروع الهيئة العامة للكتاب في مصر بوسط القاهرة لرؤية كتابي على أحد الرفوف، قبل أن ينتابني فور دخولي شعور بالشجن والخوف!، كانت كتب الشعراء والقصاصين والروائيين تتصدر الدور الأرضي، تنزل عليها أضواء خافتة، فيما تبرز صور الكتاب بالأسود والأبيض، وحين هبطت وحدي للدور الأسفل، كانت رائحة الكتب تثير في النفس شيئاً من الأسى على ما مضى.. ويبدو أنني أخطأت البداية! فحين وصلت الدور الأول الذي يضم الإصدارات الحديثة وبينها كتابي، كانت جذوة الفرح قد انطفأت تماماً!.

في الدور الأرضي، حيث مكتب الاستقبال، كانت دواوين محمد عفيفي مطر، وصلاح عبد الصبور، ومحمد ابراهيم أبوسنة، وأمل دنقل، وفاروق شوشة، وحلمي سالم، وعبد الرحمن الأبنودي، وسيد حجاب، ورفعت سلام.. قلت: كلهم ماتوا!، رحت أتأمل وجوههم، وأتذكر بعضاً من قصائدهم، حيث طمي مطر، وسفر عبد الصبور، وموت أمل، ونيل أبي سنة، وليل شوشة، وحداثة حلمي، وفلسفة رفعت سلام!

وفي ركن آخر، كانت كتب يوسف إدريس، ونجيب محفوظ، وخيري شلبي، وإدوارد الخراط، ويحيي الطاهر عبد الله، ومحمد مستجاب، وجمال الغيطاني، وإبراهيم أصلان، وسعيد الكفراوي، وآخرين، من الراحلين.

وفي الدور الأرضي، كانت كتب الرافعي، والمازني، والعقاد، وطه حسين، وعبد الرحمن شكري، والبارودي، وحافظ ابراهيم، وإبراهيم ناجي، ومحمود حسن إسماعيل، ويوسف السباعي، وعبد الرحمن الشرقاوي ويحيي حقي، ، وصلاح جاهين، وفؤاد حداد.. قلت سبحان من له الدوام، وصعدت الى الدور الأول!.

لدقائق معدودة، انتابني شعور بالغبطة، فور رؤية كتابي، يتوسط أحد الأرفف، قبل أن يتملكني الشعور الجارف بالقلق! ما الذي يمكن أن يضيفه كاتب مثلي، وسط هؤلاء العمالقة.! لماذا كان هذا الجهد الذي بذلته، والمكتبة المصرية والعربية مليئة بكتب وقصص وروايات ودواوين أساطين الفكر والأدب؟!

كنت قد ألفت أو أعددت كتابي الأول عن حصيلة حواراتي مع عدد كبير من زعماء العالم في أفريقيا وآسيا، وعندها كان لي أسبابي وكان للكتاب حيثياته، بل ورحبت دار المعارف المصرية بنشره، باعتباره إضافة نوعية للمكتبة العربية، لكن أن تضيف كتاباً في الأدب والفكر والجمال، فمن أنت؟!، قلتها لنفسي وأنا أقلب في هذه الأسماء الكبيرة والوجوه المضيئة في دنيا الثقافة، وخرجت لمبنى نقابة الصحفيين لأجلس شارداً ومتأملاً على السطح!.

والحق أنني لم أختر الوقت المناسب للجلوس على سطح النقابة! كانت الشمس تميل للغروب، والضوء المنبعث من «الكافتريا» العلوية يزداد خفوتاً، فيما يضطرب قلبي، وتنسحب روحي، وأنا أسرح بخيالي، معاوداً تذكر الراحلين العظام! لماذا أقدمت على خطوة تأليف كتاب، وما الذي يمكن أن أضيفه؟!.

في المساء، وفيما كنت أبحث عن إجابة واضحة وشافية، وجدت الأديب الفرنسي الكبير جان دي برويير، يقول:»ينبغي أن يقوم الكاتب بمهنته في راحة من الضمير، مقتنعاً بأنه أتى بعد فوات الأوان، وأن كل شئ قيل!!، وفيما كنت أردد يا الله! مؤكداً لنفسي أن هذا هو ما حدث ويحدث لي، كان برويير يجاملني مهدئاً من روعي: إن على الكاتب أن يستسيغ من الآخرين أحياناً، عدم اعتدادهم بحديثه!.

عدت مرة أخرى لجان بول سارتر، وهو أفضل من أجاب على السؤال الكبير: لماذا نكتب؟ّ فوجدته هذه المرة يقولها بحسم: إن مسألة المجد الأدبي جزئية ومجردة! وبدلاً من أن تشغل نفسك بالحلم بالمجد في الأندية والمنتديات، وحول حلم أجوف، عليك أن تفكر على العكس من ذلك.. في مدة مخصوصة ومحدودة، ولدى شريحة معينة، تختار لها موضوعاتك.. وقد فعلت!.

لقد كان قرائي من حسن حظي ومازالوا يمثلون الجانب الذاتي في نفسي! نشأوا على ما نشأت عليه، وشبوا على ما شببت عليه، وأمامهم ما أمامي من مشاهد، وفيهم نفس ما يختلج في نفسي من عواطف وذكريات، ومن ثم سرعان ما تعي قلوبهم، ما أريد أن أقوله بأقل إيحاء من اللفظ!، وفي المقابل هم يكشفون لي طوال الوقت عن ذوات أنفسهم، ويجدون في كلماتي ما يعبر بدقة عن أحلامهم، وعن أفراحهم، وعن أحزانهم.. إنهم بالنسبة لي بمثابة الضمير!.

كتب لي البروفيسورعاطف السيد عوض وهو أحد رواد طب الكبد في مصر، وأنا أكتب في الجمال، يقول: أقسم بمن وهبك هذا العقل المبدع، والخيال الواسع، واللسان الفصيح، والذاكرة الحاضرة، والكتابة المعبرة، والقلم الذي لا يجف مداده، ولا يتلاشي صريره، أنها عين الحقيقة، فيما عبرت عنه صاحبة رسالة الدكتوراة، مدونة بريشتها كل ما تخطه أنت، وتعبر عنه بقلمك..!

وقالت الكاتبة غادة طلعت ولم ألتقِها أو أعرفها وأنا أكتب في الرثاء: والله لا أدري ماذا أقول لك! لكن.. أتدري! لو أنني ضمنت رثاءً معبراً.. صادقاً نقياً.. رشيقاً هكذا وبمثل عذوبة كلماتك وتعبيرك.. لو ضمنته، لمت غداً وأنا أتساءل عن صدق الكلمات.. ترى أهي من أعماق قلب، أم أنها المهنة والحرفة؟ أظنها وأحسها صدقاً، وأياً كان.. كم هو جميل ورقيق «رثاؤك»!.

قلت لنفسي: حين تشرع في زرع الأرض، ينبغي أن تضع أمامك موسماً كاملاً من الانتظار، فإذا انطلقت في شؤون الناس، فقل ما تراه حقاً، لأنك رهنت نفسك بكل كلمة مستقبلاً، وسيمتد ذلك، حتى بعد رحيلك.. هذه هي الكتابة.. وقد كتبت وسأكتب.. اللهم فاشهد!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store