Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريـف قـنديـل

آيات الحب في قريتي.. وركوب العفاريت!

A A
سمعتها بأذني، عندما كان يرويها صديقي الفلاح الفصيح «علي مرزوق» لابنتي «شروق» وهي تجهز لدراستها الجميلة عن الأسطورة في شعر محمد عفيفي مطر!. كان الصديق يحكي عن العفريت الذي أنهكه وكل زملائه المزارعين في حقبة قديمة من الزمن، وكيف كان يفسد كل ما يقومون به أثناء الري، وتنزيل «السباخ»، فإن وجهوا الماء جهة الشرق، حولها جهة الغرب، وإن ساروا بالحمير لوضع «السباخ» بعثرها لهم أثناء الطريق!.

لقد كانت حكاية الصديق علي مرزوق مخيفة للابنة ولصديقتها المصورة، لولا أن خضرة البرسيم، والمشهد الخلاب، كان يخفف من درجة الإحساس بالخوف!!. يستمر العم «علي» في الحكي بصوته المؤثر والذي تحتفظ به «شروق» حتى الآن، وأنا أقطع الحديث متعمداً بسؤال عن «الجعضيض» أو «اللوبين» تخفيفاً من حدة الرهبة!.

كنت أقرأ في رائعة الدكتور شاكر عبد الحميد عن «الغرابة.. المفهوم وتجلياته في الأدب»، عندما راح يحكي عن السندباد البحري في «ألف ليلة وليلة» والذي كان متعباً خائفاً في جزيرة ما، بعد أن غرقت سفينته، ومع خوفه وتعبه نام، ثم في الصباح مشى بين الأشجار، وعند ساقية وماء عين جارية، رأي شيخاً مليحا ًجالساً، رأى إنساناً مألوفاً، سلم عليه، فردّ بإشارة ولم يتكلم، فسأله السندباد عن سبب جلوسه في هذا المكان، فلم يرد عليه، بل حرك رأسه، وأشار إليه بيده، طالباً منه أن يحمله من مكانه هذا الى مكان آخر بجوار ساقية أخرى، فحمله السندباد وقال لنفسه: أعمل معروفاً مع هذا الشيخ لعل ثواباً يحصل لي، ثم عندما وصل الى الساقية الأخرى، طلب منه النزول، فلم ينزل من عن كتفي السندباد، بل لف رجليه على رقبته.. وتستمر الحكاية!

«فنظرت الى رجليه، فرأيتهما مثل جلد الجاموس في السواد، والخشونة، ففزعت منه وأردت أن أرميه من فوق كتفي، فقرط على رقبتي برجليه وخنقني بهما، حتى اسودت الدنيا في وجهي، وغبت عن وجودي، ووقعت على الأرض مغشيا عليّ مثل الميت، فرفع ساقيه وضربني على ظهري وعلى كتفي، فحصل لي ألم شديد، فنهضت قائماً وهو راكب فوق كتفي وقد تعبت منه، فأشار لي بيده الى مكان أراده وأنا أمشي به إليه، وإن توانيت، أو تمهلت، يضربني، وأنا معه شبه أسير!».

تذكرت على الفور، قصة «علي مرزوق»، الذي تعامل مع نفس الموقف تقريباً بنجاح وبشكل سريع، طبقاً لروايته!، يقول الرجل: لقد أتعبنا هذا الأمر كل صباح وكل مساء، وفي ذات يوم صليت الفجر، وبدأت في تنزيل السباخ، وصاحبنا يظهر أمامي تارة، وخلف الحمار أخرى، ممارساً لعبته! وحين وصلت الى نقطة التنزيل، تظاهرت بأن كل شيء تمام، وبدلاً من أن أركب الحمار عائداً، ركبته هو وانهلت بالضرب والتكبير على رأسه، وهو يصيح طالباً السماح! ويمضي قائلاً: لم أتركه هذا اليوم، إلا وقد انتهيت من تنزيل كميات «السباخ»، دون أن يدرك الفلاحون المارون أنني أستخدمه!.

عدت الى الدكتور شاكر الذي كان يعلق على حكاية السندباد قائلاً: إن حكايته، تذكرني بالقول السائر الذي يطلقه العامة في مصر على الشخص الذي لا يكف عن الحركة والتململ والانتقال من هنا الى هناك مع كثرة الكلام الذي يتناثر منه، بعيداً وقريباً، فيقولون عنه «كأنه راكبه عفريت»!.

قلت: إذن لقد فعلها علي مرزوق! وبدلاً من أن يترك العفريت يركبه، ركبه هو وساقه صاغراً، حتى أنه استخدمه بدلاً من الحمار في تنزيل السباخ!.. تمنيت لو التقيت الدكتور شاكر الذي يتولى الإشراف على مسابقات الشعر في منتدى عفيفي مطر بأتليه ضي بالقاهرة، لأسأله عن رأيه في طريقة مرزوق في التعامل مع الموقف وطريقة السندباد! والذي حدث أن الأخير اضطر لأن يسقي من ركبه خمرا - والعياذ بالله - حتي يسكره ويذهب عقله، ثم يخلعه من فوق أكتافه.. ولأننا في القرية لا نعرف الخمر، ولا نريد أن نعرفه، فقد مضى على مرزوق متوضئا ًومصلياً الفجر، ومتمكناً من التعامل مع الموقف!

بعيداً عن هذه الأساطير، وعما قاله الدكتور جابر عصفور من أن الخمر المقصود في قصة السندباد هو ذلك الضوء، ضوء الوعي والاستنارة لكل ما هو غامض أو مخيف أو غريب، أقول إننا كنا نتعامل مع مثل هذه المواقف، وهي في غالبها الأعم محض تهيؤات، بالتعوذ أو تلاوة بعض الآيات!.. لقد كانت حياتنا كلها حباً وألفة، ضوء ساطع وفرح شاسع تمشي في النهار وكل أطيار الرضا والأمان تحط عليك، وتمشي في الليل فكل أقمار الفرح تجيء إليك.. ترانيم جميلة، ومواويل طويلة.. ومن ثم فقد انعدمت أو كادت كل العفاريت!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store