Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
أحمد عبدالرحمن العرفج

من العباطة تحديد مفهوم البساطة

الحبر الأصفر

A A
يَأتي زيدٌ قَائلاً: (يَا سيّدي كُن بَسيطاً، حتَّى يَفهمك البُسطاء)، وتَسأل نَفسك: مَن أعطَى الحَق لزَيد ليَتحدَّث عَن البُسطاء ويَنوب عَنهم؟!. لقد تَغنَّى بالبَسَاطة، وتَلذَّذ بذِكر مَحاسنها «أهل الصّعوبة» والتَّعالي، فأصبَحتَ تَقرأ عَلى وجوه «المُستبسطين» حِكمة للمُفكِّر «لاروشفوكو» تقول: (البَسَاطة المُتكلفة هي وَقَاحة دَقيقة)..!

إنَّ البَسَاطة الحقيقيّة هي طَبيعة ثَانية، ومِنحة رَبّانيّة، لا تُكتسب بالادّعاء، ولا تتحصَّل بالتمنِّي، مَع الإقدَام والتَّقدير للسيّد «دودو فيل» القَائل بأنَّ: (البَسَاطة التي يَنبغي أن تَكون حريّة طَبيعيّة، غَالباً مَا تَحتاج إلى درَاسة لاكتسَابها)..!

كُن بَسيطاً، كُلّ يَدَّعي بأنَّه ذَلك الرَّجُل البَسيط، ولَكن مَا البَسَاطة..؟! ومَا حدُودها..؟! وكَيف يَفهمها أفرَاد الأُمَّة الوَاحِدَة..؟! إنَّها مَفاهيم رماديّة، لأنَّ البَسَاطة فَضيلة شَأنها شَأن كُلّ الفَضائل، لَها جَانبان، جَانب فَخيم وآخر سَقيم.. ونَحنُ نَعلم أنَّ الفَضيلة -أي فَضيلة- تَقع في الوَسَط بين رَذيلتين، فالبَسَاطة وَسط بين القَسوَة والصّعوبة مِن جِهة، والرَّخاوة والميوعَة مِن جهةٍ أُخرى.. إنَّها فَضيلة، و«العَقَّاد» يَقول قَبل حِين مِن الدَّهر: (الفَضائل يَستغلّها السيّئون).. البَسَاطة شعُور دَاخلي، واستلهَام حياتي يَزيد بالقَناعة ويَنقص بالغرُور..!

إنَّ البَسَاطة شَيءٌ مُحبَّب إلى النَّفس، ويَكفي أن بَحر البَسيط مِن البحور المَرغوبة في قرض الشِّعر ونَظمه، لذَلك قَال بَعضهم في وَصف هَذا البَحر:

إنَّ البَسيطَ لَديهِ يَبسطُ الأملُ مُستفعلٌ فعلٌ مُستفعلٌ فعلٌ

ولَكنْ كَثير مِن النَّاس تَختلط عَليه المَسائل، فَلا يُفرِّق بَين البَساطة والتَّسطيح، أو بَين البَرَاعة واللكاعَة، ومَا ذَاك إلَّا بسَبب التَّشابُه بَين تَبسيط الأمور بَعد دِرَاستها بعُمق، وتَبسيطها بَعد النَّظر إليها بسَطحيّة، ونَحنُ نَعرف أنَّ البَسَاطة مِن أصعَب المَهارات، التي تَتطلَّب تَدريباً وثقلاً، وتَحتاج إلى فَترة مِن الزَّمن كي تَنمو، إنَّها مِثل الاختصَار تَماماً، فأنتَ تَستطيع أن تَكتب عَشرَات الصَّفحات، ولَكن مِن الصّعوبة أن تَختصر هَذه الصَّفحات في عَشرة أسطُر..!

حَسناً.. مَاذا بَقي..؟!

بَقي القَول: إنَّني أستفهم القَوم وأسألهم: أين البَسيط، هَذا المسكين الذي يَتحدَّث عَنه كُلّ أصحَاب الوجُوه القَاسية..؟! أين هو..؟! لأنَّنا نَعرف أنَّ كُلّ قِرد بعين أُمّه غَزال، وقِبل ذَلك، وبَعده نَعرف أنَّ لكُلِّ سَاقطةٍ في الحيِّ لاقطة إمَّا مِن النَّاس، وإمَّا مِن الخشب!!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store