Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
نبيلة حسني محجوب

«ودي أموت اليوم»!

أي أن النص -كما يقول النقاد- خليط من أفكار وكتابات شتى، خضعت لعملية التناص، أو الاقتباس لذلك تصبح من حق آخر، ونزولاً عند فلسفة بارت، ضمّنت مقالتي أبيات الشعر السابقة، دون معرفة قائلها، الذي قد مات كما تمنى، موتاً فيزيقياً، أو كما أفتى بارت وجمهرة الحداثيين، موتاً أدبياً!.

A A
العنوان شطر من صدر بيت شعري، حرّض فضولي؛ من يا تُرى الذي يتمنى الموت اليوم لا باكر، أي غداً؟، لابد أنه رجل «طهقان» من فقر أو ظلم، وسدت في وجهه الأبواب، فتعجل الموت!.

أم أنه أحد الذين صالوا وجالوا في دروب التعدد والمسيار، فأضاع الصحة والمال، وكثر الغم والعيال، فلم يجد أمامه ملاذاً آخر غير الموت يريحه من كل ماجنت يداه؟!.

لكن عندما قرأت الأبيات، وهي من الشعر الشعبي النبطي، أزاحت كل الأفكار المسبقة التي كوَّنها العنوان، لأنها تكشف الباطن، وتعلن دون مواربة نزعة الفضول الإنساني، الذي يدفع بقائل الأبيات التالية إلى تمني الموت:

«ودي أموت اليوم وأعيش باكر... وأشوف منهو بعد موتي فقدني..

منهو حملني لين ذيك المقابر... وأشكر كل من كرمني ودفني..

شخص تعنا لي مع إنه مسافر... وشخص قريب وللأسف ماذكرني..

ومنهو يرتب غرفتي والدفاتر... وإن شاف صورة لي صاح وحضني»

لا يكتفي الإنسان بالفضول الذي مارسه في حياته الدنيا، لكنه يريد أن يصطحبه معه إلى القبر، ليعرف من حمل نعشه، ومن دفنه، ويعلم من جاء من السفر، ومن كان قريباً منه لكنه لم يذكره، مهموم بترتيب غرفته ودفاتره، يريد رؤية أحبته وهم يتألمون على موته!.

لا أعرف لماذا أعجبتني الأبيات على جهازي المحمول، فلم يعد الرأس يحفظ شيئاً، ولم يعد في مقدورنا قول العبارة الشهيرة، «العلم في الراس ماهو في الكراس»، بعد أن أصبح كل شئ في ذاكرة الكمبيوتر، أو الهاتف النقال الذي أصبح يمثل رؤوسنا، أي أن الرؤوس نزلت في الأكف أو بين الأصابع، وأصبحت عبارة «شايل رأسه على كفه» لا تعني التضحية بها أو الجرأة وقسوة القلب بل تعني تمتعه بخبرة عملية في دنيا التكنولوجيا، معنى مختلف ينبثق من اختلاف الزمن واختلاف أدواته ومعطياته!.

ظلت تلك الكلمات «ودي أموت باكر» تراودني كلما عدت للمستندات في حاسوبي، لا أذكرها عندما أمر عليها، أفتح الصفحة، أكتشف أنها أبيات الشعر ذاتها، أقفلها وأنصرف لشأني، وكلما عدت عادت تبتز فضولي، فأعود إليها مرة ومرات، آخر مرة قررت نشرها دون إذن صاحبها اعتماداً على فلسفة موت المؤلف للناقد الفرنسي رولان بارت، فلم يعد الأدب إبداعاً، ولم يعد النص حقاً للمؤلف، بل ملكاً للقارئ، يخضع لقراءاته وتأويلاته وإعادة صياغته واعادة نشره بصياغته الجديدة.

أي أن النص -كما يقول النقاد- خليط من أفكار

وكتابات شتى، خضعت لعملية التناص، أو الاقتباس لذلك تصبح من حق آخر، ونزولاً عند فلسفة بارت، ضمّنت مقالتي أبيات الشعر السابقة، دون معرفة قائلها، الذي قد مات كما تمنى، موتاً فيزيقياً، أو كما أفتى بارت وجمهرة الحداثيين، موتاً أدبياً!.

لم يعد كاتب الأبيات السابقة يعني لي شيئاً، بأي طريقة كان موته، لأنه لن يعيش باكر ليشبع فضوله!.

البيت الأخير توقفت عنده كثيراً، لأنه يناقش علاقة الميت بأقرب الناس اليه.

من يستطيع الدخول إلى غرفة المرء ويلمس مقتنياته الشخصية غير من تربطه بهم علاقة بنوة أو أبوة أو أخوة أو علاقة زوجية!.

إذا شك المرء في محبة أقرب الناس إليه، وحزنهم عليه فقل على الدنيا السلام!!

الموت ينهي علاقتك بكل ما يربطك بالحياة، لأنك ستنتقل الى أشكال أخرى من العلاقات لا يعلمها إلا الله!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store