Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. سهيلة زين العابدين حماد

قراءة في مشروع مدونة الأحوال الشخصية (1)

إنّ إباحة زواج المجانين والمعتوهين فيه استهانة بنظام الزواج والكيان الأسري في الإسلام، وإن كان المبيحون له يقولون إن من حق هؤلاء ممارسة حقهم الفطري، أفلا يُفكّرون أنّ ذلك سيكون على حساب حقوق الزوجة والأولاد، فأنت تُعطي حقًا للمعتوهين والمجانين، وتأخذ حقوقًا من زوجاتهم وأولادهم مقابل إعطائهم هذا الحق. فأرجو إعادة النظر في هذه المادة.

A A
اطلعتُ على مسودة مشروع مدونة الأحوال الشخصية، واستوقفتني المواد التالية:

أولًا: ما جاء عن الخطبة في المادة الرابعة "إذا عدل أي من الخاطب أو المخطوبة من الخطبة بسبب يعود إليه، فليس له الرجوع بالهدية، وللطرف الآخر أن يسترد منه ما قدمه من هدية إن كانت قائمة وإلّا بمثله، أو قيمتها يوم قبضها، ما لم تكن الهدية ممّا يستهلك بطبيعتها".

فهنا لم يُبيِّن في أية حالة يسترد الطرف الآخر ما قدمه من هدية...إلخ؟

وما دامت هدية فكيف يحق له استردادها وقد قدّمها من تلقاء نفسه، ولم تُلزمه خطيبته، أو أحد من أهلها أن يُقدّمها لها، فتنطبق عليها أحكام "الهبة"، فكيف يُلزم واضعو مدونة الأحوال الشخصية المخطوبة أن ترد هدايا خطيبها التي قدّمها لها فترة الخطوبة؟.

ونص هذه المادة لا يختلف عن المادة (3) من النظام الموحد للأحوال الشخصية لدول مجلس التعاون، وهو: "يرد من عدل عن الخطبة دون مقتضى الهدايا بعينها، إن كانت قائمة وإلا فمثله أو قيمتها يوم القبض ما لم يقض العرف بغير ذلك، أو كانت مما تستهلك بطبيعتها".

إنّ القائلين بِردِّ الهدايا للخاطب في حال فسخ الخطبة تركوا ما جاء في السنة المشرّفة؛ إذ نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن رد الهدية، إذا لم يكن هناك سبب يدعو لذلك، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(أجِيبُوا الدَّاعِيَ، وَلَا تَرُدُّوا الْهَدِيَّةَ، ولَا تَضْرِبُوا الْمُسْلِمِينَ). (رواه الإمام أحمد (3838)، والبخاري في "الأدب المفرد" وابن حبان في "روضة العقلاء" وصحّحه الألباني في "الإرواء").

ثانيًا: تحديد سن أدنى للزواج للزوجين، وهو إتمام سن 18 عامًا، طبقًا لما جاء في المادة التاسعة: "يمنع توثيق عقد الزواج ما لم يتم الزوجان ثمانية عشر عامًا".

وهذا ما طالبتُ به في عدة دراسات ومقالات وبرامج تلفزيونية، وذلك أسوة بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي تزوج من السيدة عائشة رضي عنها وهي ابنة التاسعة عشرة عامًا وليس تسعة أعوام، كما يردده الكثيرون، وقد أثبتُّ هذا بالأدلة التي لا يتسع المجال لذكرها الآن، كما أنّه ثبت علميًا وطبيًا بأنّ الجهاز التناسلي للمرأة لا يكتمل إلّا بعد إتمامها سن 18 عامًا لتتحمل العلاقة الزوجية والحمل والولادة. فتحية من الأعماق لواضعي المدونة لأنّهم قضوا على مآسي تزويج الطفلات والقاصرات من جذورها.

ثالثًا: ما جاء في المواد (11) فيما يتعلق بزواج المجنون والمعتوه، فرغم تعارض إقرار هذا الزواج مع المادة (6) من مشروع مدونة الأحوال الشخصية التي تنص على أنّ: "الزواج عقد بأركان وشروط يرتب حقوقًا وواجبات بين الزوجين، غايته الإحصان وإنشاء أسرة مستقرة يرعاها الزوجان بمودة ورحمة"، نصّت المادة (11): للمحكمة أن تأذن بزواج المجنون، أو المعتوه بناءً على طلب ولي تزويجه، بعد الشروط التالية: 1.أن يقدم الولي تقريرًا طبيًا معتمدًا عن حالة الجنون والعته، 2. أن يقبل الطرف الآخر في عقد الزواج بعد اطلاعه على حالة المجنون، أو المعتوه، 3. أن يكون في هذا الزواج مصلحة للمجنون والمعتوه."

وهذه المادة لا تختلف عن المادة (7) في نظام الأحوال الشخصية لدول مجلس التعاون (وثيقة مسقط) والمادة 28 من قانون الأحوال الإماراتي، والمادة التاسعة من قانون الأحوال البحريني، والمادة الثامنة من قانون الأحوال العُماني، والمادة(15) من قانون الأسرة القطري، والمادة (24) من قانون الأحوال الكويتي.

فإجازة هذا الزواج لا تستند على نص من القرآن الكريم ولا من السنة، وإنّما تستند على اجتهاد بعض الفقهاء بدليل أنّ مدونات الأحوال الشخصية لمصر وتونس والجزائر، وموريتانيا لم تُقنّن زواج المجنون والمعتوه.

"الزواج ميثاق شرعي بين رجل وامرأة غير مُحرَّم كل منهما على الآخر بنسب أو صهر أو رضاع، قوامه السكن والمودة والرحمة، وكل منهما لباس للآخر، وغايته إحصانهما، وإنجاب ذرية صالحة لإعمار الكون، وإنشاء أسرة مستقرة على أسس تكفل للزوجين تحمل مسؤولياتهما الأسرية بمودة ورحمة وعشرة بالمعروف".

فهل زواج المجنون والمعتوه تتحقق فيه هذه الأحكام؟

هل يتحقق الإحصان للزوجة من زواجها بمجنون، أو معتوه؟، هل يتحقق السكن والمودة والرحمة لزوجة المعتوه والمجنون؟، وهل يتم إنشاء أسرة مستقرة تكفل للزوجيْن تحمّل مسؤولياتهما الأسرية بمودة ورحمة وعشرة بالمعروف؟، وهل الأب المجنون والمعتوه يستطيع مشاركة زوجته في تربية الأولاد وتوجيههم؟، وهل أسرةٌ ربُّها مجنون أو معتوه تقدم أفرادًا صالحين للمجتمع؟

وهل الذين أباحوا زواج المجنون والمعتوه وقنّنوه في مدونات الأحوال الشخصية سألوا أنفسهم هذه الأسئلة، وإن سألوها ما هي إجاباتهم عنها؟

إنّ إباحة زواج المجانين والمعتوهين فيه استهانة بنظام الزواج والكيان الأسري في الإسلام، وإن كان المبيحون له يقولون إن من حق هؤلاء ممارسة حقهم الفطري، أفلا يُفكّرون أنّ ذلك سيكون على حساب حقوق الزوجة والأولاد، فأنت تُعطي حقًا للمعتوهين والمجانين، وتأخذ حقوقًا من زوجاتهم وأولادهم مقابل إعطائهم هذا الحق.

فأرجو إعادة النظر في هذه المادة.

أركان عقد الزواج وشروط صحته، هذا ما سأبحثه في الحلقة القادمة إن شاء الله، فللحديث صلة.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store