Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محسن علي السهيمي

ثقافة المجتمع.. تحوُّل أم ثبات؟

A A
تمثِّل ثقافة المجتمع -أي مجتمع- عنوانه الرئيس وشعاره البارز الذي يميزه ويمنحه بصمة مغايرة عن غيره من المجتمعات، وعلى هذا شدَّدت المجتمعات على ثقافتها المتوارَثة (عادات وتقاليد ومبادئ وتراث وفنون...) وتمسكت بها وأعلت من شأنها حتى أصبحت معظم مفردات الثقافة المتوارَثة لدى الكثير من المجتمعات مسلَّمات لا تقبل النقض أو الإزاحة. باعث هذا المهاد سؤالٌ وجيه طرحه أحد الزملاء هو عن وضع الثقافة المجتمعية، هل يأخذ حالةَ الرسوخِ والثبات؛ بحيث لا يمكن أن يفقد المجتمعُ شيئًا من ثقافته المتوارثَة وسماتها مهما تعرضت لمزاحمة ثقافات أخرى مغايرة، ومهما اجتاح المجتمعَ من تحولات وتغيرات؟ أم أن هذه الثقافة المجتمعية لا تأخذ صفة الصمود والبقاء بوجه الثقافات المزاحمة لها والحادثة على المجتمع، فتذوب الثقافة السابقة في الثقافة اللاحقة؟ وهل مطلوب من أي مجتمع أن يُبقي ثقافاته المتوارثة كما ورِثَها؛ فلا يقبل بتطويرها وتحسينها لتكون متماشية مع روح العصر ومستجدات الحياة؟. كلنا نؤمن بأن التغيير سنة من سُنن الحياة، وأن الزمن كفيل بوأد القديم أو تطويره، وإنتاج الجديد، وعلى هذا فثقافة المجتمع ليس لها صفة الديمومة والثبات؛ بل هي في حالة تغيُّر وتشكُّل مستمرَّين متماهيين مع حركة الزمن ومستجدات العصر. ولذا يمكن أن يُقال عن تحولات الثقافات المجتمعية أنها تأتي على ثلاثة أشكال: الشكل الأول ثقافات بائدة لم يعد لها أثر، ومن ذلك بعض الألعاب الشعبية -فردية وجماعية- التي كانت الأجيال السابقة تمارسها، الشكل الثاني ثقافات لم تندثر ولكنها تحولت إلى شكل آخر يتناسب والمرحلة الزمنية، مستفيدة من منجزات العصر، ومن ذلك الدعوات لحضور حفلات الأعراس حيث كانت تتم بالمواجهة المباشرة عن طريق مقابلة الداعي للمدعو، ثم تحولت إلى رقاع دعوة تُرسل من الداعي وتصل إلى المدعو، ثم استقرت أخيرًا على رسائل إلكترونية عبر الجوال تحمل صورة كرت المناسبة مذيلاً بعبارات الدعوة للحضور. الشكل الأخير ثقافات حادثة استجدت ولم تكن معروفة من قبل ولهذه الثقافات الحادثة جانب سلبي، ومن ذلك إدمان تناول الوجبات السريعة، وأخرى حادثة ولها جانب إيجابي ومن ذلك ربط السائق والراكب حزامَ الأمان. ثم طرح الزميل سؤالاً آخر مفاده: هل ينبغي منابذة كل ثقافات المجتمع (المتوارثَة) ومصادرتها بحجة التماهي مع روح العصر؟. برأيي فإن ما كان من تلك الثقافات خارجًا عن تعاليم الشرع المطهر، أو متضادًّا مع الأخلاق الفاضلة والسلوك القويم، أو مزعزعًا للحمة الوطنية فينبغي طرحه جانبًا وعدم التأسف عليه، ومثل هذه الثقافات يمكن تسميتها الثقافات الموءودة، ومن ذلك المراسم التي كانت تتم في حشد من الناس لتُجرى من خلالها عملية ختان الذكور، ومنها إطلاق الأعيرة النارية عندما يقدم وفد لأي مناسبة. وما كان من تلك الثقافات محفزًا للوفاء والبذل والعطاء، باعثًا على التآلف والتعاون، فينبغي أن تبقى وتُعزز مع عدم جمودها على الحال التي عُرفت به وكانت تُقدم من خلاله، وهذه يمكن تسميتها ثقافات متحولة، وهي على شقين، ثقافات متحولة سلبيًّا كصفة الكرم التي كانت تأتي في مسارها الصحيح لكنها اليوم أُخرجت لمسار ليس هو مسارها، وثقافات متحولة إيجابيًّا كمراسم العزاء الذي كان مفتوحًا طوال أيامه الثلاثة، لكن تم اليوم -عند الكثير من الناس- تقنينه في ساعات وأوقات محدودة. وبالمجمل فثقافة المجتمع غير مستقرة، بل تشهد تبدلات وتحولات متتالية، ومن الصعوبة الحفاظ على أي ثقافة بالصفة التي أتت عليها للوهلة الأولى،

لذلك نرى ثقافة تبيد، وثقافة تتحول من حال إلى حال تبعًا لمستجدات العصر، وثقافة حادثة لم تكن مألوفة من قبل. ولو عدنا لمجمل ثقافة مجتمعنا لوجدناها لا تخرج عن هذه الحالات الثلاث، وتبقى العبرة مرهونة بجدوى الثقافة المتوارثة وإمكانية استمراريتها وتماهيها الإيجابي مع العصر، وبجدوى الحادثة ونفعها.

ألتقيكم -بإذن الله- منتصف شوال القادم.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store