Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. أيمن بدر كريّم

ورطة الحب

A A
ما الذي حفّزني على الكتابة عن الحبّ، لا أدري! لعلّها الحيرة، نعم.. إنه التردّد.. مشاعر الحبّ كذلك، مشاعر لا تسلم من تهكّم وجدال، إنها سير ثملٍ في حقل ألغام، إذ لا محالة متعرّض لانفجارٍ يذهله عن سكرته، يحوّله لأشلاء مترامية في ساحة حرب لم يخترْ خوضها.

الحبّ يُمزّقك، يبعثرك ويشتّتك، ثم يلملِم ما تبقّى من شعثك، ويتركك كائناً بهويّة جديدةٍ ومصيرٍ مجهول، إنه الانعتاق من النفس، والوقوع في الأسر.. أسرُ مَن، لا يهم.. مشاعر معقّدة عابثة، وصفها فلسفي لا يُفهم، والحروف معها لا تسعُ المعاني.. أن تحبّ، يعني أن تُدهشك التفاصيلُ الدقيقة، وتُعطيها العُذر لتُفسِد عليكَ يومك، وتحرمَك النوم، وتذهلك عن نفسك، أن ترتسم على محيّاك ابتسامةٌ بلهاء، وتتنازل عن حريّتك طوعاً، سامحًا للآخر الغريب بامتلاك مشاعرك والتحكّم في مزاجك، وقد يؤذيك دون تردّد، وستغفر له أذيّته طالما أحببته، وهنا تكمن الخطيئة الكبرى للحبّ.

هو منطق مضادٌ للحرّية، في العرف الواقع، أما في المنطق المثالي، فالحبّ هو الحريّة.. إنه شهوة متنكّرة في صورة مشاعر إنسانية رقيقة.. الأنانية بكلّ عنفوانها متخفّية بغطاء الإيثار، إنه الاستحواذُ باسم التضحية، لقاءٌ بوصف افتراق، إنه حلمٌ وردي يستحيل كابوساً مؤرّقاً، جحيمٌ دنيوي، وتعذيبُ المرء لنفسه على ذنبٍ لم يرتكبه.

يقول عنه العلم، إنّه هرمونات وناقلات عصبية، وجاذبية فخّ أخرق للوقوع في حتمية التزاوج، تضطرنا لاتّباع إرادة الحياة والتكاثر لاستمرار النّوع البشري.. إنه إجابةٌ خاطئةٌ مقبولةٌ لتساؤلات وجوديةٍ عميقة، وأوهامٌ سعيدة تحافظ على كينونةِ الإنسان، وتشتّت فكره عن الحقائقِ الصّادمة للحياة، إنه الاضطراب العقليُّ الوحيد الذي يتوقُ له الإنسان، ويباركه الآخرون، ويفلتُ به الناس من تهمة الهوَس والعتَه.

الحبّ، خدعة العطاء، إنه حثٌّ على الاهتمام، وسماحٌ بالاستبداد، وبذل جهدٍ فظيع لتحمّل الارتباط واستنزاف الطاقة، والاقتراب حتى الاحتراق، فمعظم قصص الحبّ الرومانسية المشهورة، كانت لأشخاص لم يلتقوا ببعضٍ إلا قليلاً.. إنّ القُرب، آفةُ الحبّ.. إنه تبريرٌ لذيذ لغياب الطّمأنينة، وانعدام الهدوء، وسببٌ لاستمرار عنفوانِ المعاناة، والإثارة وسط الضّجر.. إنه حضورُ القلق، وطغيان الأمل الزائف بقرب الخلاص، إذ ربما لا يستمرّ شعور الحبّ حقًا، إنما هو مؤقّت قصير الأمد قابل للعطَب، سائرٌ نحو التغيّر وصائر إلى الزوال. يقول (جان بول سارتر) في معرِض حديثه عن الحبّ الذي وقع فيه: «الرجلُ العظيم، عليه أن يحافظَ على نفسه حُرًّا»!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store