Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. علي آل شرمة

هذه أخلاقنا وتقاليد مجتمعنا

A A
مأساة مروعة وقعت يوم الثلاثاء الماضي في مدينة نجران، عندما دهست إحدى السيارات توأمًا لم يتجاوز الخامسة من العمر، فلفظ الطفل فيصل أنفاسه الأخيرة في الحال، في حين أصيبت شقيقته حور بكسور خطيرة نقلت على إثرها للعناية المركزة. كان الطفلان يلهوان بمنتهى البراءة في متنزه الملك فهد بنجران على مرأى من والدتهما، وفجأة دهستهما سيارة يقودها رجل مسن قام بنقلهما فورًا إلى المستشفى ولكن القدر كان أسرع.. لحظات عصيبة مليئة بالألم عاشتها الأم المكلومة وهي ترى بعينيها فلذتي كبدها اللذين انتظرتهما 14 عامًا بعد زواجها وهما تحت السيارة دون أن تستطيع فعل شيء سوى ذرف الدموع التي ملأت وجهها. أما الأب المكلوم الذي كان قد ذهب ليجلب لعائلته الطعام فلم يملك سوى المسارعة للمستشفى والظنون والوساوس تتملكه من كل جانب.. هناك فوجئ بالحقيقة المؤلمة وأخبره طاقم المستشفى بأن ابنه الوحيد انتقل إلى جوار ربه الحكيم الكريم، وأن ابنته تصارع الموت في غرفة العناية المركزة.. وفيما بعد حملت الساعات التي تلت الحادث البشري للأب بتحسن الحالة الصحية لابنته بعد أن كانت في وضع حرج جدًا بالعناية المركزة. لم تقف تلك اللحظات العصيبة أمام مروءة الأب الشهم الكريم، ولم تغلبه مشاعر الحزن واللوعة على القيام بفعل عظيم مستمد من تربيته الأصيلة ونشأته الصالحة، فأعلن العفو عن المتسبب في الحادث لوجه الله تعالى، في فعل كريم وتصرف نبيل يدل بوضوح على أن فاعله تشبع بقيم المروءة وأخلاق الإسلام الصحيحة، وقدم الصورة الحقيقية لما يحمله المواطن السعودي من نخوة وكرم وإيثار دون انتظار الشكر من أحد أو الثواب سوى من رب المغفرة والجود والكرم. «الحمد لله على قضائه وقدره، ولله ما أخذ وله ما أعطى، وأن يجعل فيصل شفيعاً لنا يوم القيامة، وأن يشفي شقيقته، وأن يلهمنا الصبر والسلوان، وأن يربط على قلب والدته، وأن يعوضنا من عنده»، كلمات قليلة في عددها قالها والد التوأم، لكنها كبيرة في معانيها، تحمل كل معاني طيب الأخلاق. هذ هو ما نشأنا عليه، وهذه هي التقاليد الراسخة التي تعلمناها في مجتمعنا السعودي، وهي مستمدة من ديننا الإسلامي السمح الذي يدعو للعفو والتسامح، كما أنها راسخة في واقعنا العربي الأصيل المشبع بقيم المروءة والشهامة.. لذلك لم يكد وفد قبيلة المتسبب في الحادثة يزور قبيلة والد الطفل الضحية طالبًا العفو حتى تم التنازل لوجه الله الكريم، بعد مداولات لم تستمر سوى دقائق معدودة، تم بعدها إطلاق سراح قائد المركبة من التوقيف على الفور. في مقابل هذه الصورة المشرقة نلاحظ بكل أسف وجود قلة من ضعاف النفوس الذين ينتهزون مثل هذه الوقائع الأليمة للمتاجرة وطلب تعويضات مادية بمبالغ فلكية، ترهق الآخرين وتدفعهم لبيع كل ما يملكونه لتوفير المبالغ المطلوبة، والتي يذهب معظمها إلى جيوب سماسرة اعتادوا الدخول على خطوط تلك القضايا، فيتظاهرون بالرغبة في الإصلاح، بينما يتسببون حقيقة في تعميق المشكلة وزيادتها بمضاعفة المبلغ المطلوب من ذوي الضحايا.

وقد سعت القيادة الرشيدة إلى تشجيع مبادرات الصلح والعفو، عبر الشفاعات التي قام بها ملوكنا الكرام وأمراء المناطق في حالات كثيرة، وإنشاء لجان إصلاح ذات البين.. ومع التسليم بوجود كثير من المصلحين الذين يسعون بين الناس ابتغاء الأجر والثواب، إلا أن هناك قلة امتهنت السمسرة في الدماء وجني الأموال من معاناة الآخرين.

للقضاء على تلك الظاهرة السالبة قام كثير من أهل الخير في مختلف أنحاء المملكة ببذل مساعي صادقة للقضاء على الأزمة، ويبرز هنا الاتفاق الملزم الذي وقَّع عليه مشايخ القبائل والأعيان والوجهاء في نجران، برعاية أمير المنطقة الأمير جلوي بن عبدالعزيز بن مساعد، بتحديد خمسة ملايين ريال كحد أقصى في حالات القتل، ومليون ريال في حالات الإصابة البليغة و500 ألف ريال في بقية الحالات. مثل هذا العهد المجتمعي الفريد يستمد أهميته من توافق الجميع عليه بمنتهى الرضا، بعد جهود مكثفة لأمير المنطقة الذي يبذل الغالي والنفيس لضمان السلم والأمان، ولا يدخر جهدًا في سبيل تحقيق كل ما يؤدي إلى استتباب الأمن والاستقرار، ويقود كل الجهود الخيرة لنزع أسباب البغضاء والشحناء، تنزيلا لمبادئ الدين الإسلامي الحنيف الذي يدعو إلى تعزيز قيم التسامح، وتشجيع الناس على الصفح والعفو عند المقدرة، وإصلاح ذات البين. هذه هي أخلاقنا التي نشأنا عليها، والقيم التي وجدناها منذ عهد الآباء والأجداد، وستظل موجودة بيننا إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، وإن ظهرت بعض الممارسات الفردية السالبة فهي لا تعدو أن تكون حالات شاذة مصيرها إلى الزوال، مصداقًا لقوله تعالى (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store