Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محمد بشير كردي

وما على «عسير» بعسير!

A A
(ما كُلَّ مَا يَتَمَنَّى الْمَرْءُ يُدْرِكُهُ، تَجْرِي الرَّيِاحُ بِمَا لَا تَشْتَهِي السُّفُنُ).. هكذا منذ زمن ليس بالبعيد، كنَّا نعللِّ النفس وقتما كانت أمنياتنا نحن أهل الجزيرة العربيَّةً أن يكرِّمنا الله بمرقد عنزة في بلاد الشام، حيث الماء والخضرة والوجه الحسن الذي لم تغيِّر معالم جماله العواصف الرمليَّة والشمس الحارقة.. ويوم أن كان من المتعذَّر علينا اكتشاف ما في بلدنا من مناطق تنعم بالماء والخضرة والرزق الوفير لفقدنا معرفة وجودها.. فلا طرق معبَّدة تسير عليها المركبات توصل إليها، ولا استراحات تريح من عناء السفر.. إلى أن قامت المملكة العربيَّة السعوديَّة على يد مؤسِّسها طيَّب الله ثراه بإيفاد نخبة من أبناء المملكة المختصِّين بالتعليم والإدارة والرعاية الصحيَّة والاجتماعيَّة في بعثات استكشافيَّة يجوبون فيها شرق البلاد وغربها، وجنوبها وشمالها، لتلبية احتياجات سكَّانها، وتوفيرالحياة الكريمة لهم.

يروي لي صديق كان من نصيبه المشاركةً في بعثة استكشاف لمنطقة عسير التي وصلها ومن معه من الطائف على البغال والحمير.. حيث لم تكن هناك طرق معبَّدة، ولا مركبات نقل.. وكانت المفاجأة اكتشافهم جنَّة من جنَّات الأرض! غنيَّة بالماء والخضرة والوجوه الحسنة.. والمفاجأة الأجمل أنَّ سكَّانها كانوا يديرون أمور حياتهم بأنفسهم.. لم يصلهم خبر انضواء مناطقهم لكيان سياسي يضمُّ معظم بقاع جزيرة العرب.. كانت عملتهم الريال الفضِّي الفرنسي.. وتداوله كان نادرًا في البيع والشراء.. فقد كانوا يتعاملون فيما بينهم بالمقايضة مع جيرانهم ممَّا تنتجه الأرض من مقوِّمات الحياة، قراهم معلَّقة بجبال شاهقة؛ يتجاوز ارتفاع بعضها الثلاثة آلاف متر، شديدة الانحدار غربًا، وترتوي تربتها بمياه المطر على مدى أيَّام السنة لتنتج كلَّ متطلَّبات المائدة، والصعود إلى قممها متعة لعشَّاق الطبيعة ومحبِّي رياضة تسلُّق الجبال، الصاعد إلى القمم يدخل في السحب الممطرة ليصل لفضاء رحب وأرض مشمسة تسرُّ الناظرين.. كان سكَّانها وإلى وقت ليس ببعيد، يتنقَّلون ما بين مدرَّجاتها صعودًا وهبوطًا بسلالم من حبال للوصول إلى منازلهم، ولزرع أراضيهم وجني محاصيلها، العمل في الأرض وجني المحصول والبيع والشراء من تخصُّص سيِّدة البيت، صاحبة الكلمة الأولى في الأسرة.

اليوم، شقَّت الطرق، وعبِّدت وفق أحدث مواصفات الطرق السريعة العالميَّة، والطرق الجانبيَّة.. وتوجد فيها مطارات دوليَّة تربط مدنهم التي تجدَّد بناؤها وتجميلها ببعضها، وتزويدها بتقنية متطلَّبات العصر كباقي مدن المملكة.. ويقصدها عشَّاق رياضة تسلُّق الجبال، إلى جانب عشَّاق التراث والتاريخ.. فقد وثَّق الدكتور جميل صليبا، ومن بعده الدكتور أحمد داود في تسجيلات بثتها فضائية الـMBC وموقع YOUTUPE وآخرون من العلماء والدارسون، بأنَّ الجزيرة العربيَّة ومرتفعات عسير خاصَّة وما حولها هي مهد العديد من الأنبياء والرسل.. وعلى أرضها ولدت الديانات السماويَّة.. وما تزال قوافل عدد من ضيوف الرحمن في طريقهم للحج، يتوقَّفون عند المغارة المقدَّسة في قمَّة جبل السراة.. وكما تروي الأساطير، تفجَّرت منها المياه، وكونَّت أنهارًا تجري شرقًا باتِّجاه الجزيرة، وغربًا باتِّجاه البحر الأحمر، فأخضوضرت الأراضي، وأنتجت ينعًا على الموائد أقام أود الحياة، وكاثر النسل الذي عمر جزيرة العرب وشمالها؛ بلاد المشرق العربي، وغربًا ضفتي البحر الأبيض المتوسِّط ومن سكنه من الفينيقيّين.

لكلِّ ما سبق، لم نعد نحلم بمرقد عنزة في كلٍّ من سورية ولبنان اللتين وقعتا تحت الأسر الفارسي الصفوي، فانهار اقتصادهما، وضاع فيهما الأمن والأمان.. فلدينا اليوم، ولله الحمد، مناطق تعادل بلاد الشام جمالًا وخضرة.. وفيها ما تتوق إليه النفس وتتمنَّاه.. وما علينا إلَّا تشجيع السياحة الداخليَّة التي ستجذب لاحقًا السياحة العالميَّة.. فهذه الطبيعة الساحرة، وكنوزها الأثريَّة، وبحرها الأحمر قبالتها، وما فيه من مغريات لعشَّاق الرياضة المائيَّة ستجعلها قبلة للسائحين.. وما ذلك على الله بعسير، فقيادتنا الرشيدة تعمل على تحديث المملكة، وتطوير مرافقها من أجل حياة أفضل لمواطنيها وللأجيال القادمة.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store