Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
شريـف قـنديـل

حكايات مع «دودة القز» و»جمع الطوابع» وصيد «أبو الطيور»

A A
ضربات شمس عديدة، أخذتها وأنا في مقتبل العمر أقف بالساعات لاصطياد «أبو الطيور» أملا في الإيقاع بالأحمر القاني، أو البنفسجي الجميل! وأيام طويلة، قضيتها حارسًا وساهرًا وأنا أتابع دودة القز، وهي تخرج خيوط الحرير من فمها لتكوين الشرنقة! ومشاوير أطول خضتها في سبيل الحصول على طابع جديد جاء غلاف ظهر خطاب بريد!

وإذا كنت قد استوعبت مبكرًا، قيمة هواية جمع طوابع البريد، والتعرف مبكرًا على عواصم مدن عالمية زرتها في الكبر، فإنني لم أفهم إلا متأخرًا سبب وقوفي أمام «أبو الطيور»!.

لقد بلغ من تمويهي على تلك الحشرة الطائرة حد استخدام أصبعي أو كتفي وكأنه فرع لشجرة، فإذا ما وقف «أبو الطيور» عليه، سارعت بإمساكه بيدي الأخرى!

لقد كنا - نحن صائدي «أبو الطيور»- ودون أن ندري، نستشعر الجمال، باعتباره حقيقة ثابتة في كيان هذا الكون، وقيمة عليا تعلو على قيم المنفعة، فضلاً عن كونه صفة بارزة في الإبداع الإلهي!

الآن أدركت أن الإبداع الفني والأدبي، للشعراء والروائيين والفنانين التشكيليين، بل والمهندسين المبدعين، لا يأتي من قوى غيبية، ولا من ربات فنون أسطورية، ولا من وادي عبقر! إنه تفاعل الإنسان مع بيئته، من خلال ما فطر عليه من بذرة إبداعية في عقله، اختصها الله به!

كنت أقرأ في «ملكوت عبدالله» للشاعر الكبير محمد عفيفي مطر، حين كان عبدالله يُقعى، كاتماً أنفاسه وهو يرى من شغب الألوان فيضاً فائراً.. أجنحةٌ شفافةٌ ينْبض فيها عنكبوتٌ شبكيٌّ من دمٍ.. ومْضُ عيونٍ من شظايا لؤلؤٍ في ذهبٍ، في ذَرْوِ بلورٍ، وكحلٍ في بقايا كهرمان! غُصَّ بالدهشة! ما من أعينٍ تبرق هذا البرق، لو أن المرائي انسربتْ ألوانُها فيها، لما ظلَّ على الأرضِ كيانٌ كي يرى! أم هذه الأعين تُعطي كل شيء لونه، كيما يكون؟!

غُصَّ بالحيرة! حتى استغْرقتْه سِنَةٌ من غفلةٍ، واصّايحَ الصائحُ من رفقته، فانْتبه الصيادُ في أعماقه بالمكر والخفة، في بغتة فخٍّ محكمٍ من أصبعين، كان ينقضُّ، ويصَّايح في ثرثرة الزهو.. أبو الطُّيورِ في يمناه.. في يسراه أنشوطةُ خيطٍ للأسير، كلما أرْخى له الخيطَ استجاشت في جناحيه الثنائيين حمَّى الطيران! ثم ردَّتْهُ إلى زنزانة الخيط ارتباكات علوٍّ وهبوط! قال عبدالله في رفقته: قد لَيَّلَ الليلُ ولن نبقى إلى الظلمة! رحت أعيد قراءة القصيدة، وأنا أستيقن كيف كنا صغاراً ودون أن ندري نمارس أو نتدرب على الإبداع حيث لا بد من الملاحظة، ولا بد من التفكير، والاختمار، والاسترخاء، وإطلاق الخيال.

وحيث لا بد كذلك من الإشراق، حين تظهر الأفكار دون توقع، وصولا إلى مرحلة الحدس والاستبصار، حيث تتولد الإحساسات والإدراكات من أبسط الأشياء! لقد كنا نمارس تنمية الذكاء والموهبة والاختراغ في آن واحد! عفوية الخيال، وقصدية الفكر والعقل.. خزانة الوجدان وعنفوان التصور.. مرونة التعامل، ورحابة الصدر، والحلم المتواصل بالسلام والعدل والحرية!

تركت «أبو الطيور» وعدت بذاكرتي إلى عالم دودة القز، وكيف كنا نسعى فور شرائها لتجهيز الصندوق، وأنضر أوراق التوت، وكان أستاذي يحيي حقي يشرح لي تلك العلاقة بين الدودة وورقة التوت، فالأولى قلامة ظفر، والورقة تقارب الكف، ومع ذلك، فقبل أن يرتد إليك بصرك، تكون الورقة قد اختفت عن الوجود، غارقة في جوف الدودة! كيف حدث هذا؟. إننا لا نرى لعاب الدودة وهو يسيل باحتدام شهيتها، ولا فكيها وهما يطبقان كالكماشة على طرف الورقة، ولا ما في فمها من مصنع هائل، ذاخر بالسكاكين، والتروس، وآلات الفرم والطحين!، لا نعرف هل عيناها تبرقان من شدة اللهفة، أم مغمضتان من فرط التلذذ، ولكننا نشهد بمتعة كبيرة مثلاً فذاً رائعاً لمعنى الالتهام الذي لا يشبع، للدأب الذي لا يكل، ولا يمل، لاعتماد حياة قوم على قتل أقوام!

قلت وأنا أتذكر أقراني من المربين والبائعين والمشترين، إننا لو جمعنا كل ما اقتنيناه من شرانق ومن حرير لن نكمل جيباً ولا أقول «كُماً» لقميص، أو وردة حريرية على فستان، فلماذا كان كل هذا الجهد الكبير في الشراء والبيع؟!

إنه الاستمتاع بالتجريب، والانفتاح على خبرات الآخرين، والمثابرة من أجل تحقيق الهدف، والتدريب على الاعتماد على النفس، وحب الاستطلاع، وفك الغموض، والبصيرة، ومواجهة الصعاب!

لقد كنا نتدرب على الاستشفاف والقدرة على الإحساس، بالأشياء الكامنة والخفية!

فلما وصلت لهواية جمع البريد، وتذكرت رائدها في قريتي «حمادة حداد» أدركت قيمة أن ترى صورًا لأمجاد وشخصيات وعواصم البلاد، وجمال زيارتك لها أو مرورًا بها أو العيش لسنوات في قلبها!.. لقد رأيت طفلاً برج إيفل في باريس، وميدان الطرف الأغر في لندن، وبحيرة جنيف في سويسرا، وتمثال موزرات في فيينا، فلما زرت هذا العواصم وأقمت في بعضها أدركت لماذا كان تعلقي بحمادة حداد، وشغفي بتأمل طوابع البريد!.


contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store