Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محسن علي السهيمي

حتى المتنورون عارضوا التقنية!

A A
ارتبط فعل معارضة الجديد -التقنية خاصة- وممانعتها لدى المجتمع بالمحافظين، وقد تعددت صور معارضة الجديد وأشكالها لديهم، لكن الأمر الذي ينبغي التنبيه عليه هو أن حالات المعارضات تلك كانت تصدر من فئة محدودة ولا يمكن تعميمها على بقية المحافظين، والحال نفسها تنطبق على الفئة المقابلة كما سيتضح. الأمر الذي لا يبدو مألوفًا هو مجيء فعل المعارضة للتقنية الحديثة ممن ثرَّبُوا على المحافظين معارضتهم للتقنية، وهؤلاء المثرِّبون هم مَن يطلق عليهم (المتنورون) الذين يُفترض فيهم تقبُّل الجديد وعدم معارضته مهما كانت طرائق استخدامه ومهما تعددت غاياته؛ بوصفهم انفتاحيين لا يتوجسون شرًّا من التقنية ولا يسيؤون الظن بمستخدميها.

حين النظر في فعل المعارضة لكل جديد نجد أن بعض المحافظين عارضوا بعض نواتج التقنية، وتأتي معارضتهم للدشوش (أطباق الاستقبال اللاقطة لإشارات الأقمار الصناعية) بوصفها واحدة من أشهر المعارضات والممانعات، وعلة معارضتهم لا تكمن -حسب قولهم- في الطبق نفسه إنما فيما يمرر من خلاله، حيث كانت القنوات التلفزيونية في بدايات البث الفضائي تحمل الكثير من الغثاء والعبث وما له انعكاسات سلبية على الفرد والأسرة والمجتمع، من هنا كانت معارضتهم وتلك حجتهم التي تمسكوا بها مؤكدين على أنه متى كان أكثر الذي يُمرر من خلال هذه الأطباق يحمل الخير والصلاح فلا حجة لهم في المعارضة بعد ذلك، وقد وجد موقفهم هذا استنكارًا من المتنورين الذين رأوا في تلك المعارضة تطرفًا وتخلفًا ورجعية لا تتفق مع روح العصر ومستجداته. لم تنقضِ على هذه الجدلية إلا سنوات معدودة حتى برزت -أواخر العقد الأول من الألفية الجديدة- جدليةٌ جديدة يحمل رايتها هذه المرة المتنورون؛ وذلك حينما استعانت هيئةُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (وهي الجهة الحكومية الرسمية) بكاميرات المراقبة من أجل ضبط بعض المخالفات الشرعية في المراكز التجارية والأماكن العامة، يومَها قوبل فعل الهيئة بردة فعل قوية واستنكار من بعض المتنورين من خلال مقالاتهم ومدوناتهم وحواراتهم، وهنا تتكرر حجة المعارضة التي رأيناها عند المحافظين لكن مع وسيلة تقنية مختلفة؛ حيث يرى التنويريون أن العلة ليست في الكاميرات ذاتها وإنما في ما يترتب على استخدام الهيئة لهذه الكاميرات. هنا يتضح أن المعارضتَين (وجهان لحجة واحدة) هي الخوف مما يُمرر أو مما يترتب على هذه التقنيات (الدشوش والكاميرات) من سلبيات.

ما جعلني أسترجع هذه الجدلية المتجددة هو حالات الجرائم والحوادث التي ترصدها -باستمرار- التقنية ممثلة في (كاميرات المراقبة) المنصوبة في الإدارات الحكومية والمحلات التجارية والمنازل والشوارع وفي أماكن عديدة بحسب الحاجة والاستطاعة والتي تتأكد أهميتها البالغة مع كل جريمة أو حادثة، فقد كشفت هذه الكاميرات العديد من حالات السطو والسرقات والحوادث والتحرشات، وفضَّت الخلاف حول العديد من الإشكالات التي لولا الله ثم هذه الكاميرات لظلت لغزًا محيرًا ولظلت هذه الإشكالات معلقة حينًا من الدهر. والسؤال الجدير بالطرح هو لماذا تَستحضر الذاكرة سريعًا معارضة المحافظين للدشوش وتبني عليها الأحكام، في حين تغيب عنها المعارضة المماثلة التي قام بها المتنورون ضد كاميرات المراقبة مع أن حجة المعارضتَين واحدة؟ ثم إنه حين يأتي فعل المعارضة من بعض (المحافظين) الذين يتخوفون دائمًا من التقنية لَهُوَ أهون وقعًا منه حين يأتي من بعض (المتنورين) الذين يصفون أنفسهم بالانفتاح والقبول. ويبقى المعول الأول على العقل الواعي الذي لا ينجرف وراء الأصوات مهما علت جلبتها، فالحاذق المنصف إنْ قبِلَ بحجة هؤلاء فسيقبل بحجة أولئك وإن صادر حجة هؤلاء فسيصادِر حجة أولئك مادامت المعطيات أمامه واضحة وجلية كالذي حصل في قضيتي (الدشوش وكاميرات المراقبة). وعليه، فأي غُربة وتأخر كنا سنعيشها لو تمت مطاوعة المحافظين فحُرِّمت الدشوش وصودرت بالكلية؟! وأي جرائم وحوادث كانت ستتفشى وتغيب حقيقتها لو تمت مطاوعة المتنورين فمُنِعت كاميرات المراقبة؟!

لقد مضت هذه وتلك ولا أظننا إلا نعيش فترة يصل فيها ضوء الحقيقة الباهر إلى زوايا الوعي وتلافيفه، فلا مجال للأوهام والإيهام والتحشيد والتأييد والإنكار والاستكبار، فكلا الفريقين عارضَ التقنية -بتفاوت بينهما- وخير المعارضين المُقِرُّون التوابون.


contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store