Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
طارق علي فدعق

شَــــــم

A A
خلال قراءتك لهذا المقال، لو أنهيته مشكوراً خلال حوالى خمس دقائق، ستتنفس حوالى ثمانين مرة، وستُحرك خلالها كمية من الهواء تعادل محتوى حوالى ثلاثين علبة بيبسي. وكل نَفَس في حياتنا يأتي مزدوجاً، ما عدا أول شهيق عند الولادة، وآخر زفير عند الوداع، أطال الله عمرك.. وفي كل نفس، ستستشعر حاسة الشم كمية هواء ممزوجة بمكوِّنات البيئة حولك من منظفات، وبشر، وغبار... وغيرها من «طبخات» الهواء حولنا.

ويختلف الشم عن الأحاسيس الأخرى في العديد من الخواص ومنها التالي: أولًا عدم إمكانية حجبه طوال العمر.. لاحظ أنه يمكننا الحجب الجزئي أو الكلي لحاسة البصر عندما نخمدها بغمض العين، أو حاسة السمع عندما نغطي الأذن، وتغطية الجلد لحجب حاسة اللمس، ولكن الشم يبقى بمشيئة الله طالما كانت المنظومة سليمة، وطالما كانت الفتحات مسلكة.. وطبعاً عدد الفتحات هي أربع، وليستا اثنتين، وإلا لما مر الهواء إلى داخلنا..

وثانياً أنه مرتبط ارتباطاً مباشراً بالمخ بدون المرور على روابط، وتوصيلات.. وبالرغم من ذلك نجد أن الوصف اللغوي للروائح متواضعاً جداً في لغات العالم المختلفة.. فضلاً تأمَّل في مصطلحات مثل: «رائحته حلوة» أو «عاطرة»، بالرغم من وجود مئات الآلاف من الروائح المختلفة.. كيف نصف رائحة أطفالنا الصغار الرائعة.. أو رائحة التميس، أو عيش الحب الطازج بصفاتٍ متواضعة.. وثالثاً أنه يرتبط بالذاكرة ارتباطاً وثيقاً.. فضلاً تأمَّل في مطبخ المسكن الذي نشأتَ فيه، وعودة ذكرياته بكل سهولة بمجرد استشعار رائحة بسيطة مثل: «الكشنة» مثلاً.. ورابعاً أن حاسة الشم هي أساس حاسة التذوق، فبدونها لن تستطعم روائع الغذاء.

وخامساً أن بعض من قواعد الشم تُفاجئنا، فرائحة الأجبان عموماً لا تعكس لذتها، بل ونجد أن بعضها مقززاً، ونجد عكس ذلك تماماً في رائحة القهوة، فهي أفضل بكثير من طعم المشروب.. وسادساً أن خلايا الشم تتجدد دائماً بمعدلات سريعة بخلاف خلايا حاسة البصر أو السمع.

وسابعاً أن هناك بعض الأبعاد الاجتماعية للشم التي يصعب شرحها بشكلٍ عام بين الشعوب. في الخليج نضع قيمة كبيرة على هذه الحاسة، كما ينعكس في القيمة الكبيرة التي نضعها على العطور والبخور، وهي أعلى بكثير مما تجده في الدول الأخرى

ومن روائع هذه النعمة الجميلة هي مفاجآتها التي لا تنقطع في الأبحاث العلمية. ومن طرائف تلك المفاجآت، أن بعض مستقبلات الشم موزعة في أماكن غير متوقعة بداخل أجسامنا. فوجد علماء في جامعة «جونز هوبكنز» الأمريكية المرموقة، في مطلع التسعينيات، أن بعضها موجود داخل الكلى، لتقوم بتوازن السوائل المختلفة بداخلنا.. ووجدوا أيضاً بعضها في العضلات، والكبد والقلب.. بصراحة معلومات تستحق وقفة تعجُّباً.

وعلى سيرة الروائع غير المتوقعة، فلابد من ذكر حاسة الشم لدى بعض المخلوقات الأخرى، وعلى رأسها النحل. كلنا نعلم قوة حاسة الشم لدى الكلاب -أعزكم الله- واستخداماتها المختلفة في السلم والحرب. ولكن قبل حوالى عشرين سنة بدأت بعض الجهود في وزارة الدفاع الأمريكية باستخدام النحل للاستشعار عن المتفجِّرات، وخصوصاً في ظل مخاطر الأجهزة المفخخة. وهذه من التطبيقات المذهلة، لأن النحل يتفوَّق على الكلاب بكثير في هذا المجال.. فعندما يشم النحل رائحة المتفجرات، يبدأ بالزن والرفرفة والحركة السريعة للإعلان عن المخاطر.

أمنيـــــــة

من أساسيات حاسة الشم، حمايتنا من المخاطر، سواء كانت من المأكولات المعطوبة، أو المخاطر البيئية المختلفة، أو حتى مقالب وأخطاء ولقافات البشر.

وللأسف أن خلال هذه الأيام نشتم روائح مخاطر قرارات عجيبة متعلقة بالجائحة في المجتمع الدولي.. أتمنى أن ندرك روائع حاسة الشم المذهلة، فهي من نِعَم الله الكبرى، وهو من وراء القصد.


contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store