Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
طارق علي فدعق

بُـراد

A A
أكتب هذه الكلمات على مسافة تبلغ حوالى ١١٩٩٢ كيلو متراً من جدة.. ودرجة الحرارة تبلغ عشر درجات مئوية تحت الصفر في عز الظهر.. والثلج في كل مكان.. وبالرغم من جمال المنظر بحلّته البيضاء الرائعة، فقد بدأت معاناة التعامل مع هذا الطقس تتغلَّب على النواحي الجميلة. وبعض من أوجه تلك المعاناة هي صعوبة الحركة بأوجهها المختلفة عبر الأسطح المتجمدة والثلوج المتراكمة. ولكن الأهم من ذلك.. هناك معاناة من البرد الشديد الذي يبدو وكأنه «يدخل في العظام». وسأتوقف هنا قبل التمادي في إحدى أكبر الأخطاء العلمية السائدة: من المستحيل أن يدخل البرد في العظام. وإليكم التعليل: هيمنت الأفكار المختلفة عن الحرارة وانتقالها على الفلسفة العلمية عبر التاريخ. وكانت كلها خاطئة.

وتبلورت في فكرة رائجة الانتشار وتتلخص في وجود مادة أطلق عليها اسم «كالوريك».

وكان الاعتقاد أنها مسؤولة عن الحرارة من خلال وجودها بداخل الأشياء، لتبعث فيها النشاط الحراري. وتَغيَّر ذلك المفهوم الخاطئ بسبب العالم الفرنسي «سعدي كارنوه»، الذي كان فرنسياً حتى النخاع، وسبب اسمه العربي هو أن والده كان من أشد المعجبين بالشاعر «سعدي الشيرازي»، فأطلق عليه هذا الاسم عند ولادته في باريس عام ١٧٩٩. وكان «سعدي» مغرماً بدراسة الفلسفة، والطبيعة وهو الاسم الذي كان يُطلق على علم الفيزياء. وجاء بنظرة جديدة إبداعية عن الحرارة كإحدى أهم أشكال الطاقة.. وطوَّر بعضاً من أروع الأطر النظرية لمفهوم الحرارة وانتقالها من مكانٍ إلى مكان.

وشكل ذلك بداية أحد أهم القوانين في العلوم، وهي الأربعة قوانين للديناميكا الحرارية.

طيب وما علاقة كل هذه «الهيصة» التاريخية بموضوعنا؟، إحدى أهم القواعد العلمية التي وضعها «سعدي»، هي أن انتقال الحرارة الطبيعي يكون من الحرارة إلى البرودة دائماً.. من الحار إلى البارد دائماً في الطبيعة.. وبالتالي فلا يمكن أن يدخل البرد في العظام.. الصحيح علمياً هو أن الحرارة تخرج من العظام وأجزاء الجسم الأخرى إلى الأماكن الباردة.. ومن الضرورة الإشارة إلى أن العلماء طوَّروا علم الديناميكا الحرارية عبر السنوات، ليصبح من أهم العلوم التي تصف بدقة روائع الطاقة؛ فهي لا تقتصر على خصائص الحرارة فحسب.

وأود أن أضيف معلومة جمالية في ما يخص مطلع المقال، والحديث عن الثلوج، ففي كل ندفة ثلج هابطة من السماء - بمشيئة الله - تجد أجمل الأشكال الهندسية تُسمَّى الكُسيريات fractals.. وتُبهرنا بتشكيلات إبداعية رائعة شديدة التعقيد. هذه الأشكال تتكوَّن من خلال تكرار مثلثات مرات متتالية ومتدرّجة، لتُكوِّن نفس الأشكال على الأطراف بأعداد لا متناهية. ومن خصائصها الغريبة أنها تُكوِّن أسطحاً لا نهائية بداخل أطر يمكن قياسها.. وفي ذلك إحدى العجائب الهندسية المبهرة بإرادة الله. والتطبيقات لهذه الأشكال لا تقتصر على الثلوج فحسب، فستجدها في العديد من الأماكن في الطبيعة.. والغالب أيضاً أنك ستجد أحد أهم تطبيقات الكُسيريات في جيبك الآن.. ففي معظم الهواتف المحمولة تُصمَّم الهوائيات المُستقْبِلَة للإشارات المختلفة، باستخدام هذه الظاهرة العجيبة، وذلك لتقليص حجم ووزن الأجهزة.

* أمنيـة:

من النعم الكثيرة التي لا نشعر بها؛ هي نعمة الطقس.. أتمنى أن نتأمَّل في جماليات تلك النعم، والحمد لله الذي أنعم علينا في الوطن بأجواء معتدلة نُحسد عليها خلال هذه الشهور، والله يسلِّم عظام الجميع، وهو من وراء القصد.


contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store