Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
طارق علي فدعق

حديـــــد

A A
القدس، من أروع المدارس التاريخية. جدير بالذكر أنها موقع أهم كنيسة في العالم المسيحي وهي كنيسة القيامة، التي تقع على مسافة خمسمائة متر غرب المسجد الأقصى الشريف. وكانت هناك منافسات من الطوائف المسيحية المختلفة لإدارة الكنيسة عبر التاريخ.. وتشمل تلك الطوائف «الأرثوذوكس» الشرقية، والأرمن، والأقباط، واللاتين (الكاثوليك).

وكانت هناك منافسات لحماية تلك الطوائف المختلفة من قبل الدول العظمى آنذاك: فرنسا وإنجلترا لحماية اللاتين.. وإنجلترا لحماية اليهود.. وروسيا لحماية «الأرثوذوكس».. وتركيا لحماية الجميع، لأنها كانت مسيطرة على فلسطين بأكملها آنذاك.. وكانت هناك منافسات بين تلك الدول للوصاية على تلك المجموعات، ولكن الهيمنة الأساسية على كنيسة القيامة كانت من طائفة «الأرثوذوكس» بإذن من الإمبراطورية العثمانية. ومع زعزعة وضع تلك الإمبراطورية في منتصف القرن التاسع عشر، بادرت روسيا بالتدخل لسد ثغرة القوة الهائلة. وادعت الإمبراطورية الروسية أنها مهتمة بمصالح النصارى في القدس بشكل عام.. وبالذات اهتمامها بشؤون طوائف الأرثوذوكس الشرقيين، لأنها كانت الكنيسة الأساسية في روسيا. ولكن كانت هناك بعض الأهداف لاغتنام مصالح أكبر وأهم، فكانت روسيا تسعى لاحتلال جزيرة القرم التي كانت تقع تحت الإدارة العثمانية، وهي من المواقع الجغرافية التي كانت من أهم مسارح الصراعات من الإمبراطوريات الكبرى عبر التاريخ. والسبب هو أنها كانت تتحكم في المواقع البحرية الروسية الغربية.. حيث كانت «دهليز» التجارة والقوة البحرية.. فضلاً لاحظ موقعها الذي يربط بين البحر الأسود، والبحر الأبيض المتوسط من خلال ميناء «سيباستبول» التاريخي الشهير. وانقلبت الدنيا عندما «تهاوش» مجموعة من رجال الدين الممثلين للطوائف المختلفة، وتحولت إلى اشتباكات دموية بداخل كنيسة القيامة، لتصبح فتيل الصراع بين الدول الداعمة للطوائف المقاتلة.. ونشبت حرب القرم عام 1853 لحماية طوائف المسيحيين في بيت المقدس، ولكسب الأراضي التي كانت ستفلت من السيطرة العثمانية.

كانت الحرب فريدة في عدة أوجه.. وتُصنّف بأنها الحرب العالمية رقم «صفر»، لأنها كانت الحرب الدولية الأولى.. التي نشبت بين إنجلترا، وفرنسا وسردينيا (إيطاليا) ضد روسيا. والغريب هنا أن هذه كانت أول حرب تتحد فيها إنجلترا وفرنسا اللتان كانتا تتحاربان على مدى مئات السنين.. واستمرت الحرب لمدة سنتين، وزاد ضحاياها على المليون إنسان. طيب.. وما علاقة كل ما جاء أعلاه بموضوعنا عن الحديد؟!.

عند قيام حرب القرم تم استخدام تقنيات جديدة على نطاقات غير مسبوقة تاريخياً، وبالذات في ما يتعلق بالمدفعية في البر والبحر أيضاً. وجدير بالذكر أن العديد من المعارك الكبرى حسمتها المدفعية لأول مرة في التاريخ. وكان سباق التسليح للأطراف المتحاربة متعطشاً للحديد الذي يستطيع أن يتحمل القذائف الضخمة التي يصل وزنها إلى ما يعادل وزن سيارة «هيونداي أكسنت». وكانت إحدى أهم التحديات هي درجات الحرارة الهائلة بسبب الاحتكاك الشديد. وسطع نجم المخترع الإنجليزي «بيسي مر» الذي قدم للبشرية تقنية رائعة لصناعة الحديد من خلال الفرن العملاق، وإضافة «رشة» كربون لإنتاج الحديد الصلب الذي نستخدمه إلى يومنا هذا في استخدامات مختلفة. عجَّلت حرب القرم - التي بدأت بذورها في صراعات القدس - بتقنين صناعة الحديد الصلب. ولم يقتصر ذلك على الاستخدامات الحربية فحسب، بل فتحت إحدى أهم بوابات الحضارة العالمية من خلال صناعة السكك الحديدية التي ربطت المدن بداخل الدول وبينها حول العالم بطرق قفزت قفزات هائلة في عالم التجارة والثقافة والصناعة العالمية.

أمنيــة:

من يدرس القدس، سيكتشف بعضاً من أهم عناصر تاريخ وحضارة العالم.. ولكن المحزن هو أن التحولات العالمية التي بدأت بسبب أحداث بيت المقدس كانت على حساب سعادة ورخاء تلك المدينة الرائعة، وعلى حساب العدالة والضمير. أتمنى أن نتأمل في كيفية رد الجميل للقدس من العالم بأكمله بما يرضي الله.. وهو من وراء القصد.


contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store