Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
طارق علي فدعق

خِــــــــــــــرَق

A A
المقصود هنا هو القماش غير الصالح للاستعمال.. وقبل التوغل في التفاصيل، سأبدأ بذكر إحدى الهدايا التي أرسلتها لشخص عزيز، وهي عبارة عن دفتر كتابة يحتوي على أفخر أنواع الورق. وأتذكر أنني عند شرائه، أخبرني البائع أن الورق في هذا الدفتر صنع في مدينة «فابريانو» في شرق إيطاليا.. وحسب كلامه، فهي أقدم مقر لصناعة الورق الفاخر في أوروبا، وربما في العالم. طبعا أود أن أُصحِّح تلك المعلومة المغلوطة.. والصحيح هو أن عائلة «ملياني» أسَّست مصنع الأوراق الفاخرة في بلدة «فابريانو»، وطبقت أفضل الممارسات فحصلت على الشهرة العالمية.. ولكنها لم تكن الأولى ولا الأفضل. استفادت صناعة الورق الإيطالية بأكملها من تقنيات جلبها وطورها علماء المسلمين، وتحديداً في الأندلس التي كانت أقدم مقر أوروبي لصناعة الأوراق الفاخرة في العالم، وكانت الريادة للمسلمين في ابتكار أفضل تقنيات صناعة الورق التي بدأت في دمشق، والقاهرة، وبغداد، ثم توجت تقنياتها في الأندلس الرائعة، وبالذات في بلدة «شاطبة» Xativa في مقاطعة فالنسيا الشهيرة بجمالها، وبدخول تقنية صناعة الورق إلى أوروبا بعدما عارضتها السلطات الأوروبية عبر مئات السنين، تغير تاريخ العالم ثقافياً، وإدارياً، وعلمياً، وعملياً، وهندسياً، وكان الفضل لعلماء المسلمين في نشر ثقافة استعمال الورق لنشر الدين، والعلم، والملاحة، والهندسة، والعلوم، والأدب، وعندما احتضن الغرب ثقافة استعمال الورق وتقنيات إنتاجه، كان يصنع بأسعار مقدور عليها، مما تسبب في انتشاره بسرعة.. وساهم ذلك في انتشار تقنيات الطباعة.

طيب وما علاقة كل هذا بعنوان المقال؟.. الرابط هو أن تقنية تصنيع الورق كانت تعتمد على الأنسجة القوية، وتحديدا في «السليولوز»، وهي من أكثر المواد الطبيعية انتشارا على سطح كوكبنا.. والمادة هي عبارة عن أحد أنواع السكر وهو يُشكِّل التركيبة الأساسية في الخلايا النباتية.. وخصوصا في جدارها وأنسجتها، وكانت إحدى أهم مصادر هذه المادة القوية الرائعة في صناعة الورق هي الأقمشة القطنية المستعملة، وبالذات الخِرَق. وأُضيف هنا معلومة غريبة وهي أن إحدى خطوات معالجة الخرق تمهيداً لإدخالها في صناعة الورق، كانت تتطلب استخدام النشادر.. خلطة الهيدروجين والنيتروجين.. ولم تكن تلك الصناعة متوفرة إلا باستخدام المصادر الطبيعية وأهمها -أعزكم الله البول-، يعني تخيَّل أن الأقمشة القذرة كانت إحدى مدخلات صناعة الورق الفاخر، بسبب خصائص القطن «المبهدل».. وكل هذا تغيَّر في عام 1719 على يد العالم الفرنسي «رينيه ريمر».. وكان هذا العالم هو من أوائل من وضع مقياس الحرارة المئوي الذي نستخدمه اليوم وكل يوم، والذي يضع نقطة الصفر كدرجة تجمد الماء، ودرجة مائة كدرجة غليانه.. كان الرجل يعشق علم الحشرات الطائرة، وفوجئ بقدرات الزنابير على صنع بيوت ورقية باستخدام أنسجة الأخشاب. وبدأ بتطوير تلك التقنية فأصبحت نقطة انعطاف تاريخية.. تخيل أن تقنية صنع الورق من الأخشاب كان مصدرها الزنابير.. وتخيل أنها غيرت الاعتماد على القطن ومدخلات التصنيع المختلفة، ومن أهمها الخِرَق.

أصبحت صناعة الأخشاب هي اللاعب الرئيس في صناعة الورق، فساهمت في زيادة الإنتاج، وخفض التكاليف، وأصبحت تلك الصناعة دولية بمعنى الكلمة.

* أمنيــــــــــة:

بدأت صناعة الورق في الصين، وطوَّرها علماء المسلمين لتخدم البشرية؛ من خلال الارتقاء بتقنيات الاتصالات، والعلوم، والهندسة، والتغليف، وعشرات الاستخدامات الأخرى.. ولعبت الخرق إحدى أهم الأدوار في تلك الصناعة قبل استخدام الأخشاب كتقنية منافسة.. أتمنى أن نتذكَّر هذه القصص الجميلة، لأنها تحتوي على بعض من أهم الدروس التطبيقية في إعادة التدوير، ولأنها تُسلِّط الضوء على أهمية الحضارة الإسلامية الرائعة، التي أعطت الكثير للعالم بمشيئة الله، وهو من وراء القصد.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store