Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. عادل خميس الزهراني

الإنسان في مشروع تودوروف النقدي

A A
لطالما كان مفهوم الإنسان مركزياً في مشروع الناقد البلغا-فرنسي تزفيتان تودوروف، واستيعاب هذه الفكرة مهم لإدراك المرجعية الفلسفية خلف هذا المشروع؛ لقد نظر تودوروف إلى الأدب دوماً باعتباره فناً جمالياً يعبّر عن الإنسان في صورته التي شكلتها عقلانية التنوير وقيمها العليا.. هذا هو المعنى الأسمى الذي يسعى إليه النقد، ونقد النقد الذي كان أحد أهم رواده.. لذلك نجده يفتتح مشاركته في سجال الإنسانوية -عبر كتاب روح الأنوار- بالحديث عن عصر التنوير، المسؤولِ الأكبر خلف «تشكيل هويتنا التي نحن عليها الآن»، «حيث قررت الكائنات البشرية لأول مرة في التاريخ أخذ مصيرها بيدها وتواضعت على اعتبار رفاه الإنسانية الهدف الأسمى لأفعالها»، على حد تعبيره.

من هنا أعيدت صياغة القيم وفقاً لهذا المنظور الإنسانوي الذي يرى في استقلال الفرد وحريته وحرية تعبيره وحرمة جسده حقوقاً لا يمكن أن تتعارض مع القوانين الاجتماعية التي تهدف لتكريس وضمان قيم الحضارة العليا مثل العدالة والمساواة والحرية وقبول الاختلاف والتعددية: «يتمثل درس الأنوار إذن في القول إن التعددية يمكن أن تفضي إلى وحدة جديدة وذلك بثلاث طرق على الأقل: فهي تحث على التسامح ضمن المنافسة، وهي تنمي وتحمي الفكر النقدي الحر وهي تساعد على التجرد عن الذات بما يؤدي في مستوى أرقى إلى اندماجها مع الآخر».

هنا يبدو لي تودوروف متسقاً حين يطالب دوماً بالانفتاح على الآخر، والحوار معه انطلاقاً من قيم الإنسانوية هذه؛ فلقد تصور هذه الحوارية ضمن منظومة القيم التي بلورتها الحركة، ولطالما حلم بأن «تتمكن إنسانوية معتدلة، حقاً، من أن تضمن لنا الحماية ضد ضلالات الأمس واليوم»، إنسانوية لا تعني مناداتُها للمساواة في الحقوق بين الناس التنازلَ عن القيم، ولا يمنع دعمُها لحرية الفرد واستقلاله إلغاء فكرة التضامن الاجتماعي، كما لا يقود اعترافُها بمنظومة أخلاقية مشتركة (أو العودة للتواصل مع الطبيعة) إلى التقهقر إلى عصور التعصب الديني ومحاكم التفتيش، أو أزمنة الكهوف البائدة، يقول في كتابه (نحن والآخرون): «إن أفضل نظام في العالم ليس إلا النظام الأقل سوءاً، وحتى لو كنا نعيش فيه، فلا بد من إعادة النظر في كل شيء.. يشكل تعلم العيش مع الآخرين جزءاً لا يتجزأ من هذه الحكمة».

هكذا تكتمل صورة المشروع التودوروفي في نظرتها لوظيفة الأدب ووظيفة النقد في مسيرة الحضارة؛ وإذا كان الأول يسهم في التعبير عن المعاني الأسمى بأسلوبه الجمالي الجذاب، والثاني يشارك في تعزيز هذه المعاني وربطها بالقيم الإنسانية العليا، فإن نقد النقد يدخل ضمن هذه الحلقة الفكرية باعتباره امتداداً لحوار إنساني محموم، ومسكون بحقائق التغيير والتطور البشري. وهذا يبرر ويفسّر ذهابه إلى دعوة نقد النقد الذي يقترحه في كتابه بـ»النقد الحواري»، ويكون كتابه هذا تطبيقاً لمفهومه -المنبثق من مشروعه الفكري- عبر مناقشة التطور النقدي في أعمالٍ شكلانية وبنيوية ووجودية وواقعية، وعبر اعتماده على طريقة سردية حوارية في بنائه لشكل الكتاب (ومن هنا كان العنوان الثانوي «رواية تعلم»): «بيد أن النقد -كما يقول- حوار، ومن صالحه الإقرار بذلك علناً؛ إنه لقاء صوتين، صوت الكاتب وصوت الناقد، وليس لأي منهما امتياز على الآخر...».

«لهذا السبب أدعو هذا النقد حوارياً، إذا لا يمكن بلوغ الحقيقة الذي أطمح إليه إلا بالحوار».

لقد ظلت «الإنسانوية» في نظر تودوروف الأيديولوجيا التي ترتكز عليها الديمقراطية الحديثة، وإن كانت طبيعتها الكلية (أو الشمولية) تجعل نتائجها -أحياناً- غير مرئية أو غير محسوسة، وفقاً لتعبيره.. لذلك يذهب إلى أن أياً منا يعدّ «إنسانوياً» بدرجة ما (تزيد أو تنقص).. وبوسع هذا المذهب (الإنسانوي) دوماً أن يلهمنا: «أن يفاجئنا ويكون مصدر تنوير لنا»، إن استخدمنا كلمات تودوروف نفسه.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store