Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
طارق علي فدعق

عمّـــــــــــو

A A
في اللغة الإنجليزية لا توجد فوارق بين العم والخال.. ومقال اليوم يبدأ بأحد أكبر وأهم صِلات العمومة على الإطلاق.. ويتطرق موضوعنا أيضا للأوضاع الحالية في الشأن الروسي الأوكراني.. وفي البداية نعود إلى مطلع القرن الماضي لنقف في أحد أغرب الأحداث.. في صباح العاشر من مايو 1910 بدأت جنازة تاريخية كبرى في لندن، ويمكن وصفها بأم الجنائز.. كان المتوفى ملك بريطانيا العظمى إدوارد السابع.. وتكوَّن طابور العزاء من قيادات أهمها تسعة ملوك أوروبيين وفي مقدمتهم: ملك بريطانيا الجديد إدوارد الخامس، و»قيصر» ألمانيا وليام الثاني، والملك الإسباني ألفونسو.. والملك البلجيكي ألبرت.. والملك البلغاري فرديناند.. والملك النمساوي فرانز فرديناند.. والملك مانويل البرتغالي.. والملك فريدريك الدنماركي.. والملك جورج اليوناني.. ثم سبع ملكات.. وخلفهم خمسة أولياء عهد.. ثم أربعين من أصحاب السمو الملكي الأوروبيين.. وشقيق إمبراطور روسيا، وشقيق الخديوي في مصر، وشقيق ملك إيطاليا، وشقيق ملك السويد.. والرئيس الأمريكي السابق ثيودور روزفلت.. وأكثر من أربعين سفير. يعني كوكبة ملكية ودبلوماسية لم يراها العالم في مكانٍ واحد وفي وقتٍ واحد.. كل هؤلاء مثَّلوا سبعين دولة لتقديم العزاء في وفاة الملك. والسبب لم يقتصر على أهمية بريطانيا السياسية والاقتصادية فحسب، فالملك الراحل كان شهيرا بلقب «العم الكبير.. والخال الكبير».. وبالأصح كان «عمّو» لجميع حكام أوروبا بشكلٍ أو بآخر. كانت خالته هي والدة الإمبراطور وليام الألماني، وبنت خالته الثانية زوجة نيقولاس إمبراطور روسيا، وابنته «موض» ملكة النرويج، وكانت ملكة إسبانيا «إنا» بنت شقيقته، والملكة «ماري» ملكة رومانيا كانت أيضا من بنات أخته.. وهناك المزيد، ولكنني سأتوقف هنا لأن الصورة واضحة.

كانت جنازة «عمّك خالك» للطبقة الحاكمة في أوروبا بأكملها. وكانت تعكس إستراتيجية رسمتها والدته الملكة البريطانية الشهيرة «فيكتوريا» التي حكمت في الفترة 1837 إلى 1901. حيث وضعت هذه الملكة صغيرة الحجم (كان طولها أقل من متر ونصف) رؤية لجمع شمل أوروبا. وكان ذلك من خلال الروابط الأسرية. وتحديداً، زوَّجت أبناءها التسعة زواجات إستراتيجية على العائلات الحاكمة لتحقيق الوفاق، وأصبحت أوروبا في عشية القرن التاسع عشر عائلة ممتدة؛ جذورها إنجليزية. فكان كل حكام أوروبا الأقوياء أقرباء بشكلٍ أو بآخر بدرجات متفاوتة.. طيب، وماذا استفدنا من كل هذه المعلومات؟.

بعد الجنازة بأربع سنوات، وفي أغسطس 1914 اندلعت نيران الحرب العالمية الأولى في أوروبا، فاشتعلت الساحة الأوروبية بخلافاتٍ مسلحة لم يتخيَّلها العالم. وكانت الخطط العسكرية من جميع الأطراف أن الموضوع مؤقتا، وأن الحرب ستكون سريعة وحاسمة، وستنتهي خلال أربعة شهور كحد أقصى. ولكن المعلومة المذهلة هنا هي أن قيادات الدول المتحاربة كانوا أقرباء.. جماعة «عمك خالك». واستمرت الحرب لمدة أربع سنوات، وراح ضحيتها أكثر من عشرة ملايين ضحية، وراح ضحيتها أيضا السلام العالمي والاستقرار. وللتذكير فقد زرعت نهاية الحرب العالمية الأولى بذور الحرب العالمية الثانية؛ التي بدأت بعدها بغمضة عين تاريخية، مقدارها 21 سنة فقط.

* أمنيــــــة:

الوضع العائلي الحضاري الذي شهد الصراع المسلح في الحرب العالمية الأولى كان مفاجئاً للبشرية.. وسبحان الله أن الوضع المأساوي الروسي الأوكراني قد يصعب تفسيره بناء على بيئة المودة والتآلف الحضارية التي خدعتنا عبر عشرات السنين. أتمنى أن لا ينخدع العالم بالمظاهر التي تبدو وكأنها حضارية وسلمية، فكما يقول المثل: «ياما تحت السواهي دواهي».. والله الساتر، وهو من وراء القصد.


contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store