Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. أيمن بدر كريّم

خرافة الحقيقة!

A A
فهمُك لفكرة أنّ الحقيقة نسبيّة شخصيّة، يمكن أن يجنّبك مهاوي التعصّب والجدال العقيم، ويسمح لك ولغيرك بالاقتناع بما ترونه مناسباً.. فمن ضمن جميع الآراء والأفكار والمُعتقَدات، أنت تختار تصديق الأجمل والأقلّ إزعاجًا لنفسك، والأكثر انسجاماً مع موروثاتك.. وبهذا، تكون ما تظنّه الحقيقة، أقربَ إلى الأوهام والخُرافة.

وأمّا لماذا يتجنّب أحدهم ضروب المعرفة ومسالك الحقيقة، ويرضى بالتسليم للقطيع؟!، فلأنّ حياته قائمة على الأوهام والزّيف، وكينونته نفسها مبنيّة على الخداع والأساطير، فالاقتراب من الحقيقة يهزّ عقله ويصيبه بقلقٍ نفسي لا يمكنه احتماله.. إنّ استعدادَ الإنسان لخداع نفسه وتقبّل الأوهام، أكبر بكثير من استعداده لتقبّل الحقائق.. يقول (نيتشه): «لا تحرموا الإنسان من الكذب، لا تحرموه من تخيّلاته، لا تدمّروا خُرافاته، لا تخبروه الحقيقة، لأنّه لن يتمكّن من العيشِ من خلال الحقيقة».

ولهذا، يتجنّب كثيرٌ من العقلاء التعصّب لآرائهم وقناعاتهم، فكلّ شيءٍ قابلٌ للشك، وليس هناك طريقة أكيدة لاكتشاف الحقيقة الأصيلة.. إنّ التفلسُف يهدف إلى طرحِ التساؤلات، وكشفِ الأكاذيب، ومحاولةِ تعرية الحقيقة ومواجهةِ الإنسان بها دون النّظر إلى قناعاته ومُسلّماته، فالفلسفة لا تتجمّل ولا تُداهن ولا تُحابي، لذلك يتجنّب الخوضَ فيها ضعافُ القلوب وصغارُ العقول.

فعلى سبيل المثال، تجري في عصرنا الحالي أحداثٌ كبرى، ونحن شهودٌ عليها في الوسائل الحديثة للتواصل والإعلام، نراها ونسمع بها ونحلّلها، ومع ذلك لا يمكننا تمييز الحقيقة وكشف الأكاذيب، فكيف بالله يُمكننا الوثوق في صحّة أحداث تاريخيةٍ قديمة لم نشهدها، بل نعتمد في قبولها على رواياتِ رجالٍ عن رجال، دوّنها بعضهم في بطون كُتبٍ عتيقة، بنفوسٍ وعقولٍ وأغراض، وفي ظروفٍ وأزمنة لا يعلم عن حقيقتها إلا الله؟!.

من الطبيعي أن يتوقّف أحدُهم عند الوقائع التاريخية، والمفاهيم الفكرية، والقناعات المُنتشرة، ويظلّ عالقاً وسط الطريق، حائراً ليس له من الله مفرّ، لا يفهم فهماً كاملاً ولا يُدرك ما يبتغي، ويبقى باحثاً عن أشياء ضبابية، يقترب ولا يصِل، فالحقيقة -كما يقول الفيلسوف السّفسطائي بروتاجوراس- «متناثرة في كلّ مكان، وإنّ كلّ إنسان يستطيع أن يحصل على قدْر منها»، لكنّه حين يواجه الحقيقة، يجب عليه أن يكون مستعداً لاحتمال خطير، فكما قال (كانط): «إنْ كانت الحقيقة سوف تقتلهم.. دعهم يموتون»!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store