اللافت للانتباه أن مجتمعاتنا العربية تميل بدرجة كبيرة جداً إلى استجلاب الماضي والتمسك بحذافيره دون تنقيح أو تصحيح وكأنه كتاب منزل في مختلف مناحي الحياة حتى يخيل للمتابع أن المجد والفكر والثقافة والحضارة لم تكن إلا في تلك المرحلة وأن النمو الحضاري والثقافي قد توقفت مسيرته عند تلك المرحلة ولعل هذا الواقع يعد أحد أهم الأسباب التي أدت إلى استمرار حالة التخلف والتشرذم التي تشكوها مجتمعاتنا العربية بالإضافة إلى الأسباب الأخرى كالمذهبية والطائفية والعصبية.
وبالتأكيد فإن هذا لا يعني الانفلات الكامل من الماضي بل يستوجب أخذ العبر والدروس وكل ما من شأنه دعم الحاضر والمستقبل وتوجيه النظر إلى المستقبل واستشرافه وسبر أغواره ومسايرة منجزاته وعلومه وتجاربه التي أصبحت في تسارع مذهل بينما بعض المجتمعات العربية اكتفت بالوقوف أمامه وإبراز حالات التعجب والذهول بمنتجاته ويقيني أن سبب هذا الحال المزري الضامر يعود إلى عدة أسباب جوهرية يأتي في مقدمتها التزمت الديني الذي بلغ مرحلة التقديس لبعض رجالاته والحجم الهائل للتراث المكذوب والوهمي والمدسوس الذي انحرف بالأمة إلى مسارب وهمية بعيداً عن إطلاق قوى التفكير والإبداع والانشغال به.
وفي جانب آخر كان لبعض الساسة دور بارز في إبقاء الأمة على الجهل وإشغالهم بالتراث كي يتيسر لهم البقاء مدد أطول على كراسي الحكم. كما كان لأنظمة التعليم الضامرة والفاسدة التي أشغلت نشء الأمة بالتراث المكذوب والمدسوس فكانت النتيجة تلك المخرجات الفارغة من المعرفة الحقيقية التي تكتشف وتبني وتبدع وتخترع وتستشرف المستقبل.
ولا ننسى الدور الذي قام به الاستعمار حين فرق وشتت وأوجد الصراعات بين كيانات وضعها ليتحقق له أهدافه غير المشروعة كالسيطرة على ثروات الوطن العربي واستثمارها لصالحه وهذا ما تم له في بعض الدول والتي لم تزل تعاني من آثار تلك الحقبة الاستعمارية بالرغم من وجود بعض المحاولات الجادة والشجاعة التي تواجه دوماً بالقمع والمحاربة والتشويه من قبل تلك الدول.كل تلك العوامل مجتمعة أدت إلى ضمور الفكر العربي وتركه يعيش أحلام الماضي التي باتت تراثاً جامداً وتركت المستقبل لها لتبدع وتبتكر وتجعل من أبناء المجتمع العربي أدوات لاستثمار تلك المنتجات التي مصدرها باطن وظاهر أرض وطنهم الكبير.. والله من وراء القصد.
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
