Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. علي آل شرمة

رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه

A A
ما أن يقترب شهر الصوم الكريم وأرى الجميع يتدافع نحو الأسواق لقضاء مستلزمات أسرته، وتمتلئ الطرقات بالسيارات التي يتسابق أصحابها للوصول إلى مراكز التسوق والمحلات الكبرى، حتى يتبادر إلى ذهني أولئك النفر الكرام الذين غسلوا أياديهم من مشاغل الدنيا، وتنازلوا عن الاهتمامات الهامشية التي لا تزال تسيطر علينا وتأخذ بتلابيبنا، وارتضوا بكل أريحية وعزة نفس أن يُفارقوا عائلاتهم وأبناءهم ويذهبوا للمرابطة على حدود بلادنا وثغورها، يُدافعون عنها بأرواحهم، ويُقدِّمون حياتهم فداءً لهذا الوطن العظيم، الذي أكرمنا وقدَّم لنا كل ما نحتاج.

أجد نفسي بدون قصد أتأمل حال أولئك الذين تنازلوا عن الفراش الوثير والأجواء الدافئة ليقضوا الليالي الطوال وسط الظلام الحالك، والبرد والوحل، يتوسَّدون الصخر ويلتحفون السماء، تظل أعينهم في حالة رباط، لا تغفو ولا تنام، يُراقبون الحدود، ويردعون المتسللين، ويُلقِّنون العدو دروساً في الشجاعة والإقدام والفداء، لا لشيء، إلا لأن الله اصطفاهم لهذا الدور الكبير، وأعدَّ لهم من الأجر العظيم ما لم يُعدّه لسواهم.

تزداد قناعتي يوماً بعد يوم بأن أُولئك الجنود الأشاوس هم صفوة أبناء هذه البلاد الكريمة، وأنهم من المحظوظين الذين أراد لهم الله أن يبلغوا أعلى درجات التكريم؛ بدفاعهم عن أرض الحرمين ومهبط الوحي، لتظل راية «لا إله إلا الله محمد رسول الله» عالية خفَّاقة كما كانت على الدوام. كيف لا يكونون كذلك وهم الذين جادوا من أجل هذه البلاد المباركة بأرواحهم، التي لا يملكون أعز منها، ولا أغلى، واختاروا القيام بهذه التضحيات الجسام عن طيب خاطر، وبمحض إرادتهم، دون أن يرغمهم أحد على ذلك؟.

ولمن لا يعرف طبيعة العيش في تلك المناطق أقول: إنها لحظات من الشدة لا يستطيع تحمّلها إلا الذين ينطبق عليهم وصف الرجولة، فهُم رجال بكل ما تحمله الكلمة من معنى. رجال لأنهم تحمَّلوا المشاق، رجال لأنهم يعشقون هذه الأرض ويتفانون في الدفاع عنها. حتى المعاناة التي يتكبَّدونها صارت بالنسبة لهم نوعاً من المتعة التي لا يستطيعون العيش بدونها، فكم من جريحٍ ظل يحسب الساعات والدقائق حتى يعود إلى مكان عمله في الصفوف الأمامية من المعركة، لدرجة أن بعضهم عندما يعود إلى أسرته في الإجازة؛ يشعر بالشوق إلى إخوته في مناطق العمليات، وكثير منهم يقطعون إجازاتهم حتى يعودوا إلى مواقعهم التي ألفوها واعتادوا عليها.

وإدراكاً لحسن صنيع هؤلاء، ومقدار ما يُقدِّمونه من تضحيات وبذل، ولأننا نعيش في دولة اعتاد قادتها على تكريم الأوفياء والمخلصين، تكفي الإشارة إلى ما أعلنه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- أكثر من مرة؛ بأنه بمثابة الأب لكافة أبناء الشهداء والجرحى والمرابطين على الحدود، ويا لها من أبوَّة حانية وشرف كبير، كما يؤكد ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- تلك المعاني العظيمة بياناً بالعمل بتفقّده لعائلات الجنود المرابطين على الحدود، وتوجيهاته المستمرة للمسؤولين وأمراء المناطق بالاهتمام بهم، وتذليل كافة العقبات التي قد تُواجههم.

في هذه الأيام الكريمة العامرة بذكر الله، فإن أقل ما يُمكننا فعله؛ هو أن نُكثر من الدعاء لله عز وجل بأن يحفظهم ويُسدِّد رميهم، وأن ينصرهم على عدوِّهم، وأن يردّهم إلى عائلاتهم سالمين غانمين منتصرين، بعد أن رفعوا رؤوسنا عالياً بمجاهداتهم الكبيرة، وتضحياتهم العظيمة، ودورهم التاريخي الذي سيذكره لهم التاريخ بأحرفٍ من نور. وسيظل ما قدَّموه من تضحيات وبذل وفداء؛ وسام فخر واعتزاز على صدورهم وصدور أبنائهم وعائلاتهم، بعد وهبوا أنفسهم فداءً لوطنهم، حتى ينعم غيرهم بالأمن والأمان، وارتضوا لأنفسهم السهر لننام مطمئنين.

لا أملك إلا أن أقول لإخوتي في كافة مناطق الحد الجنوبي: إن الأرض التي أنجبتكم تفخر بكم، وإن المدن والقرى التي نشأتم عليها تتباهى بكم، بعد أن أكَّدتم بالأفعال جدارتكم بمهمة حفظ الأمن والاستقرار، وإن معاجم الكلمات لا تكفي لوصف ما قدَّمتموه من بذلٍ وعطاء، ونكران ذات، يا من تسلَّحتم بالإيمان قبل الرصاص، وأخلصتم نواياكم لله رب العالمين، ونذرتم أنفسكم لحماية الدين والأرض والعرض، والدفاع عن المقدسات، وحراسة القِيَم ومكارم الأخلاق، فأنتم مصدر أمننا وأماننا، وعزّتنا ورفعتنا.


contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store