Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
نبيلة حسني محجوب

كلام في الضحك!

A A
رغم أن بعض القصص التي يحكيها الكاتب المصري الكبير «أنيس منصور»، تُشعرك أنها غير حقيقية أو ملحها زيادة شوية، أو أن شطتها أكثر من اللازم، إلا أنك لا تملك إلا الاستمرار في القراءة بمتعةٍ وشغف، لأسلوبه السهل الممتنع، ولأنك تكتشف في كتبه معلومات كثيرة وأسماء شخصيات كبيرة كنت تتمنى لو رأيتها تمشي أمامك بشحمها ولحمها، لكنه يضعها أمامك بكل تناقضاتها، فهو كان بينهم ومعهم، يعرف أدق أسرارهم.

كنت ولا زلت مولعة بقراءة كتبه، ولا زالت جميعها في مكتبتي إلا ما تسرب منها عن طريق أبنائي الذين ورثوا ولعي بكتبه، لا أنكر أني انتقل من كاتبٍ لكاتب، كما تنتقل النحلة من زهرةٍ إلى زهرة تمتص رحيقها، وتخرجه عسلا مصفَّى، أنا أعرف أني أمتص رحيق الكتب، لكن هل أخرجه عسلا أم علقما؟، هذا لا أستطيع البت فيه، بل القارئ هو الحكم.

عندما أكتشف كاتب، أجمع كل كتبه، وأُتابع لقاءاته، وأتعرَّف على كل ما له علاقة به، حتى أكتشف كاتباً آخر وهكذا دواليك، لكن تظل الكتب هي ثروتي بعد ثروتي الحقيقية وهم أبنائي وأحفادي، إخوتي وأهلي وأصدقائي.تظل كُتب أنيس منصور السهل الممتنع الذي لا يمكنك مغادرته نهائياً، ولا التحول عنه. في كتابه الحائز على جائزة مبارك للآداب «الكبار يضحكون أيضا»، قصص وحكايات عن شخصيات سياسية وأدبية وفنية، غادرت دنيانا، لكن آثارها - إيجابية كانت أو سلبية - لا زالت عالقة في أذهاننا أو في حياتنا، خصوصاً بعض السياسيين الذين تركوا خلفهم ذكرى ليست مجيدة، لكن الأدباء والفنانين أمثال: عباس العقاد، طه حسين، عبدالرحمن الرافعي، كامل الشناوي، كمال الملاخ، أم كلثوم، محمد عبدالوهاب، إسماعيل ياسين، وغيرهم كثر، تتعرف عليهم في جلساتهم ومواقف ساخرة أو محرجة كثيرة أضحكتهم، أو ضحكوا عليها من باب: «شر البلية ما يضحك»!.

يقول الكاتب: «نحن لا نضحك إلا من مشاكلنا، إلا من المطبات التي وقعنا فيها، ولا أحد منَّا يضحك ونحن غارقون في الهمِّ والغم واليأس، ولكن بعد أن تذهب الغمة وينفرج الكرب، نجد أنها أصغر منَّا، وأنها أتفه من أن تهزم العقل والقلب»، ويضرب مثلاً بما تعرَّض له بعد فصله من الجامعة، حيث كان مدرساً للفلسفة، وفصل أيضاً من رئاسة تحرير مجلة «الجيل»، أحس وقتها أن هذه نهاية العالم ونهايته قبل ذلك، وأنه سقط من سفينة نوح، وأن حوت يونس قد ابتلعه وهضمه، وأن أحدا في الدنيا لم يتعذَّب كما تعذَّب هو!.

بعد أن مضت المحنة، أصبح يحكيها كأنها سلسلة من النكت ويضحك عليها ويضحك كل من يسمع القصة التي أبكته على نفسه وعلى أمله في الحياة.

أحد معاني الضحك عند الفيلسوف الفرنسي برجسون، أن يشعر الإنسان أنه ألعوبة. أنه شيء. تماماً كما يمشي إنسان وفجأة يقع. من يرى ذلك المنظر لا يستطيع أن يمنع نفسه من الضحك. فما الذي أضحكه؟، أضحكه أنه يرى إنساناً، وفجأة وبلا سبب قد تحول إلى شيء.. إلى طوبة، إلى كرة لعبة.. فسقط على الأرض، وقد يضحك الإنسان على نفسه، ويكون ذلك نوعاً من التغلب على الخجل!.

ذكَّرني بنوبات سقوطي في المنزل والشارع، في وطني وخارجه، وهي مشكلتي مع عظام الركبة والقدم والكاحل حتى الآن.. سافرتُ في وطني لحضور زفاف، عدتُ بكسر صغير في القدم، لكنه لئيم جداً عصيّ على الالتئام، شهر ونصف في الجبس، وشهر في جبيرة هوائية.. لكني كلما وقعت شعرتُ بالألم الشديد، ليت شعور الخجل هو الذي حضر، كنتُ ضحكت على نفسي، فالضحك حتى لو كان ردة فعل للحرج، أجمل وأطيب من الألم ألف مرة.


contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store